الضمانات الأساسية لحماية حقوق الإنسان في الإسلام .
إدريس العلوي العبدلاوي
هذا الموضوع منقول للامانه
اثاب الله كاتبه خيرا وجعله في ميزان حسناته
قصة الحقوق قصة الحياة، وقد عرفت القواعد القانونية الحياة حين بدء الحياة، حياة الإنسان في المجتمع. وقد ولدت مع الإنسان حقوقه، وسايرت نشأته وتحولت مع الزمان. عاشت معه في الغار أو في الغاب شريعته الخاصة، تنطق بهواه وتعبر عن قدرته. وقد تعبر في بعض أمره عن طاعته أو حاجته، على أنها كانت في كل حين تدل على ما وصل إليه الإنسان وما أضحى عليه المجتمع في تقدمها عبر العصور، مع نماء الأفكار واتجاه بني البشر إلى حياة اجتماعية تنشد التقارب من المثل والتعلق بالقيم الخلقية والروحية على اختلاف الدول التي أنشئوها وانتظموا في عقدها.
والحق بمعناه العام هو الرخصة التي يقررها الشرع لشخص بالنسبة لفعل معين، ويقابله الواجب، وهو الإلزام الذي يقرره الشرع على شخص بالنسبة لفعل معين. والحق والواجب أمران متلازمان، يؤدي وجود أحدهما إلى وجود الثاني. وذلك لأن تقرير حق لشخص معين يقتضي فرض واجب على آخر أو آخرين دائه له، أو لعدم التعرض له فيه. وكذلك فرض واجب على شخص معين لا يكون إلا وسيلة لاقتضاء حق آخر.
ويقصد بحقوق الإنسان ببساطة أن الإنسان لمجرد كونه إنسانا أي بشرا بصرف النظر عن جنسيته أو ديانته أو أصله العرقي أو لقومي أو وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي يملك حقوقا طبيعية به حتى قبل أن يكون عضوا في مجتمع معين.
إلا أن الإنسان بطبعه يعيش في مجتمع ما، ذلك أن الجماعة أمر ضروري لحياة الإنسان لا يستطيع الحياة بدونها. فالإنسان عاجز بمفرده، مستطيع بغيره، ومن ثم فلا يمكن النظر إلى تلك الحقوق نظرة مجردة فلسفية، بل يتعين النظر إليها في إطار المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.
إن السبيل إلى ترسيخ القيم كي يتوافر لحقوق الإنسان ما ينبغي لها من احترام هو إبراز أهميتها الفلسفية والعملية رجوعا إلى كرامة الإنسان، واستنادا إلى مصلحة البشر في حياة كريمة لائقة، ورجوعا إلى أصولها الدينية والأخلاقية الخالدة، واستجلاء مبرراتها من المنطق السليم والتفكير العلمي المستنير.
والوسيلة إلى ذلك هي الدراسة المتعمقة التأصيلية التي تجمع بين العلم بنطاق هذه الحقوق وفحواها والدراية بأسانيدها وأسسها، وبين الضمير النقي الذي يعترف بكرامة الإنسان ويؤمن بالمساواة بين بني البشر.
والحقيقة أنه لا يمكن تجريد أي مبدأ من المبادئ من ظروفه المادية والإنسانية، فالسياسة والفكر والاقتصاد والمجتمع ككل، عوامل مؤثرة ومتأثرة في نفس الوقت بالأفراد والجماعات وظروفها الزمنية. لأجل ذلك كانت التعاليم الخلقية ونوع الحكم من الأمور التي شغلت الفلاسفة والمفكرين ردحا من الزمان، ولا زالت تشغل تفكيرهم ما بقي العالم وما بقي صراع المبادئ يحتدم فيه. ومن ثم لا يمكن تأصيل الاتجاه القانوني للمجتمع إلا بالإحاطة بالدراسات الفلسفية.
* العدالة خير للغير، فهي خير لمن يأمر، وشر لمن يلتزم الطاعة:
ويعتبر الإنسان في نظر الفلاسفة مقياس كل شيء، بمعنى أن الحقيقة بالنسبة لكل شخص هي ما يراه هو، لا ما يراه غيره. وقد كان إنكارهم للحقيقة الموضوعية مؤديا إلى إنكار أي وجود للعدالة في ذاتها، أي العدالة المطلقة، والقانون في نظرهم ليس إلا فكرة متغيرة، وهو مظهر للتحكم والقوة، وكل ما يتفق مع رغبة الشخص الأقوى فهو عادل في رأيهم، فالعدالة في نظرهم هي خير للغير، فهي خير لمن يأمر، وشر لمن يلتزم الطاعة(1) .
* الغرض من وجود الدولة، هو كفالة السعادة لجميع الأفراد وضمان حقوقهم:
ومن حيث علاقة الفرد بالدولة يرى "أرسطو" أن الدولة هي المظهر الأسمى لحياة الجماعة، ولكنه لا يذهب كأفلاطون إلى أن وجود الدولة يجب وجود أية جماعة ثانوية، ذلك أن غاية الدولة في تفكير "أفلاطون" غاية شاملة، إذ تحمل على عاتقها كل ما يهم الفرد في حياته، فالغرض من وجود الدولة هو كفالة السعادة لجميع الأفراد. وإذا كانت تعنى بنشاط الفرد في جميع مظاهره، فإن سلطتها يجب أن تكون بلا حدود، وأن لا تترك شيئا لحرية الأفراد. ومن الواضح في النظام الذي يقترحه "أفلاطون" أنه لم يعن بالفرد في ذاته، معترفا له بأي حق خاص أو طبيعي، فهو قد ضحى به في سبيل المصلحة العامة، وهو قد جعل الدولة سيدا مطلقا، بل إنه في سبيل تقوية رابطة الفرد سياسيا بالدولة يصل إلى القول بضرورة إلغاء الملكية الخاصة والأسرة، ويحبذ شيوعية الأموال لتكون جميعها كأسرة واحدة، مما يترتب عليه وحدة كيان الدولة وحدة كاملة.
* الدولة القانونية هي التي تحرص على حماية حقوق الأفراد وحرياتهم في نطاق سيادتها وسلطانها:
لقد مهدت فكرة "العقد الاجتماعي" السبيل لتقرير الحريات العامة للأفراد من خلال البحث فيما استبقاه هؤلاء الأفراد في عقيدتهم من حقوقهم وحرياتهم الطبيعية التي لم ينزلوا عنها للدولة. كما أن هذه الفكرة أدت إلى وصول الكتاب تدريجيا إلى مفهوم الدولة القانونية، أي التي تحرص على حماية حقوق الأفراد وحرياتهم في نطاق سيادتها وسلطانها.
ولا يخضع الأفراد في العقد الاجتماعي لدى "روسو" في ظل الجماعة إلا للإرادة العامة التي يساهمون في تكوينها. والقانون هو التعبير عن هذه الإرادة العامة، وهو ليس أمرا تحكميا. وكل أمر لا يكون مشروعا إلا إذا كان قائما على القانون باعتباره هذه الإرادة العامة.
إن الفقهاء المسلمين قد أدركوا جوهرة نظرية "روسو" وهي التي تقضي بأن الحاكم أو رئيس الدولة يتولى سلطانه من الأمة نائبا عنها، نتيجة لتعاقد حر بينهما، وأنهم عرفوا نظرية "السيادة" كما عبر عنها "روسو" فيما بعد، وإن كانت نظريتهم احتوت على عنصر زائد خاص بها. وهذه الملحوظات ذات مغزى تاريخي هام، فإننا إذا تذكرنا أن هذا المفكر السياسي يعتبر في نظر أهل "أوربا" أبا الديمقراطية الحديثة، وإن كتاب "العقد الاجتماعي" كان يعد بمثابة الإنجيل لدى زعماء الصورة الفرنسية التي ولد منها العالم الغربي الحديث، أدركنا إلى أي حد من الدقة، والسمو والأصالة الفكرية وصل الفكر الإسلامي في أبحاثه القانونية، هكذا قبل مجيء "روسو" وأتباعه بقرون عديدة، وذلك أيضا مع فارق أساسي وجوهري، ذلك أن العقد الذي تكلم عمه "روسو" كان مجرد افتراض، لأنه بني على حالة تخيلها في عصور ماضية سحيقة، ولا يوجد عليها برهان تاريخي، بينما نظرية العقد الإسلامي تستند إلى ماض تاريخي ثابت، هو تجربة الأمة في خلال العصر الذهبي للإسلام، وهو عصر الخلفاء الراشدين.
* الإنسان أصل وأساس القانون، وقيام الدولة ليس إلا نوعا من التوفيق بين الحقوق الثابتة للأفراد:
والإنسان في نظر "لوك" اجتماعي بالطبيعة، وقد كانت له بعض الحقوق كالحريات الشخصية، ولم تكن هناك سلطة قادرة على ضمان هذه الحقوق لأصحابها، ولذا فإن الأفراد اتفقوا على أن ينظموا أنفسهم في جماعة سياسية لتوفير هذا الضمان. وللوصول إلى هذا التنظيم، نزلوا عن بعض حقوقهم الطبيعية وقبلوا تحديدها، وبهذا الاتفاق نشأ العقد الاجتماعي، ولكن الطرف الذي أعطيت له السلطة بهذا العقد ليس له استخدامها طبقا لهواه ومشيئته. ذلك أنه لم يمنح هذه السلطة إلا لحماية حقوق الأفراد، فإن أساء استخدامها فإنه يخل بشروط العقد، مما يؤدي إلى أن يسترد الشعب بقوة الواقع سيادته الأصلية.
ويقول "لوك": إن طاعة المحكومين للحاكم مشروطة بمراعاة الحاكم لشروط العقد الاجتماعي، لأن الواجبات التي تنشأ عن هذا العقد واجبات تبادلية ومتقابلة، فلا التزام على أحد طرفي العقد إن أخل الطرف الآخر بالتزاماته. وعلى ذلك فالدولة في نظر "لوك" لا تعني إنكار حرية الأفراد الطبيعية، وإنما تأكيد هذه الحرية في حدود معينة وتوفير الضمان لها، لأن الأفراد لا ينزلون بالعقد عما لهم من حقوق وحريات إلا بالقدر الذي يكفي لقيام الدولة.
إن القانون يجد أصله وأساسه في الإنسان نفسه، وإن قيام الدولة ليس إلا نوعا من التوفيق بين حقوق ثابتة للأفراد قبل ذلك.
* الدولة وسيلة أو صورة للتوفيق بين الحريات الفردية:
الحرية في رأي "كانت" حق طبيعي، وهو حق قديم لا مكسوب، بل هي جماع الحقوق الطبيعية، فهي القيمة التي تضع الإنسان في مرتبة أسمى من الزاهر الطبيعية. ولو كان الإنسان مجرد ظاهرة طبيعية، لخضع خضوعا كاملا لقانون السببية، ولكن الإنسان له في ذاته وسيلة تجعله ذا قدرة على اختيار أعماله، فالإنسان حر، وهو يحدد أفعاله طبقا للقانون الأخلاقي الذي ينبعث من ذاته نفسها(2) .
وقد تأثر "كانت" من تصويره للدولة بأفكار "روسو"، فهو يأخذ بفكرة العقد الاجتماعي، ويعرف الدولة بأنها ارتباط جمع من الأفراد يعيشون طبقا للقانون، وهذا الارتباط يتحقق باتفاق كل هؤلاء الأفراد، أي بعقد اجتماعي. وهذا العقد في نظر "كانت" ليس إلا فكرة أو تصويرا يراد بالالتجاء إليه تبرير قيام الدولة وتقرير شرعيتها. وهذا هو نفس ما قال به "روسو" من قبل. ولكن "كانت" عرض فركته بكل وضوح وبصورة تستبعد كل لبس أو غموض، فلم يقل كما قال "روسو" إن الدولة نشأت بالاتفاق الحر بين أفرادها، وإنما قال: إن الدولة يجب أن تكون طبقا لفكرة العقد الاجتماعي، فيقام نظامها على ما تؤدي إليه هذه الفكرة من اعتبار الدولة وسيلة أو صورة للتوفيق بين الحريات الفردية.
* المبدأ الأساسي في الإسلام هو تحرير الإنسان، وتكريمه :
تنطلق الحقوق السياسية في الإسلام من مبدأ أساسي هو تحرير الإنسان وتكريمه. فمن أهم جوانب الرسالة الخالدة للشريعة الإسلامية التكفل بحماية الحقوق لأصحابها، وتقرير الحق بصورة واضحة، بحيث لا يكون وجوده محل جدل أوشك يذهب باستقراره، ثم حمايته واحترامه من الناس أجمعين، وتقرير الجزاء الملائم لمن يعتدي عليه أو ينتقص منه.
والحل في الفقه الإسلامي ذو معنى شامل، يدخل فيه معنى الحرية، فتكون الحريات العامة نوعا من الحقوق، فإذا ما ورد في الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي كلمة الحق، فقد تعني حقا ماليا، أو حقا لله، أو حقا شخصيا، أو حرية من الحريات، بحسب ما يدل عليه معناها في كل مقام.
ويلاحظ أن دائرة حقوق الله تعالى في الفقه الإسلامي واسعة تتلاقى مع دائرة القانون العام، بينما يدخل حق العبد في دائرة القانون الخاص.
وتقرير الحقوق والواجبات في الإسلام مصدره الله عز وجل الذي هو الحق المبين، وتشريعه هو العدل المطلق الذي لا يحابي ولا يتحامل.
والإيمان بالله خير ضمان لحقوق الإنسان من حيث تقريرها، من حيث إنقاذها، وتدعيمها، والنضال من أجلها.
لقد خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض، ينفذ حكامه، ويطبق شرائعه، وكلفه بالسعي فيها وعمارتها، ومنحه العقل الذي يدرك به بعض أسراره في كونه، إذا أطال النظر، وأمعن التفكير، وسخر له كثيرا من مخلوقاته.
ويتضح من خلال استقراء الأحكام الشرعية في المجالات المتعددة، أن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في تنظيم الخلق، وهذه المقاصد كما فصلها الإمام الشاطبي لا تعدو ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.
وفي دائرة هذه المقاصد تروج حقوق الإنسان وقد لاح لواؤها وبزغت معالمها.
وبالرغم مما تضمنه العلام العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقيات الدولية اللاحقة له، فإن دين الإسلام كان الأسبق في إعلان تلك الحقوق بمفاهيمها الكاملة، وضماناتها الشاملة في أحسن صورة وأتم بيان.
وكان الأسبق في ربط الحقوق والحريات العامة بوظيفتها الاجتماعية، إذ أناط بهذه الحريات تحقيق المصلحة العامة وابتغاء وجه الباري سبحانه.
ومهما سما العقل البشري في هذا المجال، فهو عاجز وقاصر عما أرشد إليه القرآن من أصول ومبادئ خالدة على مر الزمان.
إن مجيء الإسلام في حد ذاته يعتبر ثورة شاملة على جميع الأوضاع الفاسدة المزرية التي بلغتها الإنسانية في عهود مظلمة سابقة، حيث أهدرت فيها حقوق الفرد وامتهنت كرامته.
وكان الإسلام حاميا شخصية الإنسان بشقيها المادي والروحي ضمانا لعدم التفكك الاجتماعي، والانحلال الخلقي، موازنا بين مصلحة الفرد في صيانة حقوقه الأساسية، ومصلحة الجماعة في التجريم والعقاب.
فالدعوة الإسلامية دعوة عالمية للناس كافة، وتقوم على الكرامة، والحرية، والعدل، والسيادة، والمساواة، وفي إطار من هذه الشمولية، كفل الإسلام للإنسان الحق في الحياة، والكرامة والعدل، والمساواة، وحق العمل، والأمان، وحق الهجرة، كما كفل للإنسان حرية التعبير عن إرادته ليعيش مكرما شريفا، كما أقر له حرية الخيار في الاجتماع مع الآخرين، والافتراق عنهم في حدود المصلحة المشتركة التي تقرر الأغلبية، والإرادة الاختيارية هي المبرر لوجود الكيان السياسي.
وكان كتاب الله الميزان الأعلى، والمعيار الأسمى، والمعين الذي لا ينضب، والسلسبيل الذي لا يغور ولا يذهب، والنبراس المنير الوهاج حين يغم الظلام، وتلتطم الأمواج.
* كرامة الإنسان واضحة من منظور الإسلام وفي بيان القرآن:
إن أول سورة نزلت من سور القرآن الكريم كانت تحمل من معاني التكريم الإنساني والاهتمام بشأنه، وتلمح إلى آثار تكريم الله سبحانه لهذا الإنسان، إذ بمحض الكرم وجد، وبخالص الجود والعطاء اهتدى ورشد، كما تشير هذه السورة التي بدأت بها الرسالة المحمدية إلى سبق العناية الإلهية بهذا الإنسان على سائر المخلوقات، فجعله مهذبا، له قابلية للعلم والفهم.
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق لإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
لقد انطلقت الحقوق المدنية والسياسية في الإسلام من المبدأ الإسلامي الأساسي المتمثل في تكريم الإنسان وتحريره. وقد صرح الخالق العظيم سبحانه بهذا التكريم.
فقال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
وهذه الآية من سورة الإسراء المكية، والقرآن المكي يتعلق في أغلبيته بتقرير العقيدة الإسلامية في النفوس، ودفاع عن الرسالة المحمدية، وعناية بأمور البعث والآخرة.
وله تعلق آخر، وهو المبادئ الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية، ومحل هذه الآية بين ما سبق وما لحق من الآيات يدل على أن تسخير هذا الكون من الله سبحانه للإنسان من بحر وبر، ومع تكريم الله يجب أن يقترن بطاعته والاعتراف بوحدانيته ليكون مهتديا في الدنيا والآخرة. كما حمل الآية نوعا من الترغيب في تقدير النعمة وشكرها، وجاء هذا الترغيب بين ترهيبين.
ومن الآيات القرآنية الدالة في نفس المعنى على تكريم الله تعالى للإنسان – وما أكثرها -، قوله تعالى:
1- _هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) (البقرة" 29).
2- (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) (البقرة: 32).
3- (الله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفور) (إبراهيم: 32 – 34).
4- (وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير).
5- والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، (التين: 4).
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات)، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
وقال عبد الرحمان بن الجوزي في "زاد المسير" : (ولقد كرمنا بني آدم)، أي فضلناهم، قال أبو عبيدة: وللمفسرين فيما فضلوا به أحد عشر قولا :
• أحدهم: أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإيمان.
• والثاني : أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده (رواه ميمون بن عمران عن ابن عباس).
وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل أكلهم بأيديهم، ونظافة ما يقتاتونه، إذ الجن يقتاتون العظام والروث.
• والثالث : فضلوا بالعقل، (روي عن ابن عباس).
• والرابع: بالنطق والتمييز (قاله الضحاك).
• والخامس: بتعديل القامة وامتدادها (قاله عطاء).
• والسادس: بأن جعل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم منهم (قاله محمد ابن كعب).
• والسابع: فضلوا بالمطاعم واللذات في الدنيا، (قاله زيد ابن أسلم).
• والثامن: بحسن الصورة (قاله يمان).
• والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير الخلق لهم، (قاله محمد ابن جرير).
• والعاشر: بالأمر والنهي، (ذكره الماوردي).
• والحادي عشر: بأن جعلت اللّحى للرجال، والدوائب للنساء (ذكره الثعلبي).
ورجع أكثر المفسرين القدامى والمحدثين، منهم الفخر الرازي، والقرطبي، والألوسي، والشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله أن مناط التكريم هو العقل.
قال القطبي: "والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إليه نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد، بعثت الرسل، وأنزلت الكتب". وما ذكره المفسرون من متعلقات التفضيل فهو على سبيل المثال لا الحصر، وهذا ما أكده "الألوسي" في تفسيره لهذه الآية، وإنما يعتبر العقل في أعلى مزية للتفضيل.
قال سيد قطب في "الظلال" :
"وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان.
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض، وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة، ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان.
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتباه المنزل من الملأ الأعلى، الباقي في الأرض، القرآن.
وإن أكبر تكريم للإنسان هو تمتعه بنعمة العلم دون سائر المخلوقات.
من كل ما سبق يتضح لنا أن كرامة بني آدم واضحة في منظر الإسلام وفي بيان القرآن، بنص هذه الآية وبالنصوص الأخرى التي تتحدث عن إسجاد الملائكة أو أمرهم بالسجود لآدم، وعن استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها، وأن عناصر التكريم والتمييز التي اختص الله بها بني آدم حتى يستطيعوا أن ينالوا هذه المكانة، وأن يؤدوا هذه المهمة يمكن إجمالها في الملائمة الجسدية من حيث تناسق تركيب الجسم، ومن حيث كفايته الوظيفية أعضاء وكلا، ومن حيث تلاؤم الإنسان مع البيئة واستطاعته التكيف معها. فهناك علاقة بين الأرض والسماء، وبين تصوير الإنسان في أحسن صورة وبين رزقه من الطيبات، كل هذا التكامل والاكتمال والتفاعل والتبادل والتأثير يجعل الإنسان قادرا على إثبات وظيفته وخلافته وعمارة الأرض، والله تعالى هو الخالق البارئُ المصور، ويتميز هذا في خلق الإنسان، والخالق غير البارئُ في المعنى الدقيق، والمصور معنى ثالث، وكل هذا تمثل في خلق الإنسان، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن صورة الإنسان وتصويره المحكم أنه جمع إلى جمال الصورة وتناسق التركيب كفاية الأعضاء والوظائف، وقد اجتمعت الطاقات المعنوية إلى جانب طاقته الجسدية، لكي يعمر الأرض ويستخلف عليها،وإلى جانب هذا كله ومن قبله ومن بعده كانت الروح التي نفخها الله في هذا الآدمي ليكون عالميا، وليكون متنقلا في أرجاء الأرض، ليس مقصورا على مكان هو مسقط رأسه، ولا متحركا في نطاق محدود، وإنما تحمله أجواء الماء وأجواء الفضاء إلى كل العوالم التي يستطيع أن يكتشفها تسبيحا بحمد الله وفضله في الآفاق.
هذا الإنسان بخلقته وفطرته وطاقاته وقدراته كرمه الله في السماء بذكره في الملأ الأعلى، والنفخ فيه من روحه، وإسجاده ملائكته المقربين له.
فال عجب أن يكرم الله الإنسان في الأرض بما وهبه من عقل وإرادة ونطق، وما سخر له في هذا الكون من طاقات، وما أنزل إليه من هداية وكتبه وإرشاد رسله.
* غاية الشريعة تحقيق العدالة، وحماية مصلحة الإنسان كخليقة في المجتمع الذي هو منه:
إن الشريعة الإسلامية تعتمد قبل كل شيء على وجدان الإنسان، لا على قوات السلطان، إنها ذات مهمة، هي إسعاد الناس وتدبير مصالحهم، لا مراقبتهم والتدخل في شؤونهم الخاصة، والعقوبات التي شرعها الإسلام هي قليلة العدد بالنسبة لعموم الجرائم، ثم هي في نظر الكثير من العلماء كفارات لما ارتكب الإنسان من إثم، فيرجع إليه إذن واجب التقدم لتنفيذها عليه حتى يطهر نفسه مما اقترفه، أو هي زواجر لإصلاح حالة المجتمع، وحماية من ضعف الوجدان الإنساني فيه.
فسلطة القانون إذن وجدانية قبل أن تكون حكومية، وتدخل الدولة في أعمال الإنسان الشخصية ضرورة لا ينبغي أن تتجاوز محلها.
إن غاية الشريعة هي مصلحة الإنسان، كخليقة في المجتمع لذي هو منه، وكمسئول أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الفكرية والاجتماعية والطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة.
فاتباع الطاعة في الأعمال الإنسانية يجعلها أعمالا شرعية، والخروج عنها يجعل العمل الإنساني في طار خارج عن الشريعة، ومن ثم فهو خارج عن الفطرة، وهذا السلوك الموجه لا ينال به الفرد رضا الله فقط، ولكنه حينما ينظر إليه إخوانه في الدين، ويرون فيه القدوة الصالحة يحترمونه ويرون فيه لدليل العملي لنفاذ الخطابات الإلهية فيتبعونه، وبذلك يصبح مرضيا عند الناس وذا أثر فعال في خلق المجتمع الإسلامي المتمتع بالحقوق المؤدي للواجبات.
وليكون الإنسان نفسه الحارس على ضمان العدالة ونشر الحق، لم يكتف الشارع بالتكليف بظاهر القانون والقضاء، بل كلف الإنسان أن ينصف غيره من نفسه ولو كان القانون أو القضاء في جانبه.
وإذا كان القانون الوضعي يهتم بالمساواة، فإن الشريعة الإسلامية تهتم بتحقيق العدالة. فالمساواة تعني فقط تطبيق القانون القائم على الجميع، كيفما كان القانون وكيفما كان الوضع أو النظام المستقر في البلد، بينما الشريعة الإسلامية تقصد إلى تحقيق العدالة. ولا تعترف بأي قانون مناف لمقاصدها، وق قال عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود على صاحبه، فأسباب الدولة نفسها لا تكفي لفرض القانون إلا إذا كانت تبررها الغاية المقصودة من بناء لدولة وهي ضمان العدالة، وتعميم الحرية لجميع المواطنين.
* احترام حقوق الإنسان يتأثر بمراحل تطور الجماعة وظروفها الاقتصادية والسياسية:
لقد أصبحت الدول المستقلة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، وقوي ساعدها، وصارت عونا للشعوب التي ما زالت تكافح المستعمر في شتى بقاع العالم، وأخذ الضمير العالمي ينادي بإقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ونالت أكثر الشعوب استقلالها، وصارت دولا أعضاء يجلسون إلى جانب مستعمريهم السابقين، كما صارت الدول الغنية المصنعة تجلس بجانبها الدول المتنامية، وتطورت ظروف العالم إلى تصنيف جديد: دول قوية جدا، ودول تتفاوت في الضعف، وإن المنطق والضرورات السياسية والاقتصادية وكذلك الاكتشافات الكونية التي أظهرت العالم شاسعا ممتدا إلى ما لا نهاية به، جديرة بأن تحفز البلدان والشعوب إلى تكتلات إقليمية، أساسها الجوامع المشتركة، والتكامل الاقتصادي والثقافي، بحثا عن المنعة والصمود لمواجهة أية سياسة هيمنية معادية، كما على البلدان الغنية المصنعة أن تقدم للدول المتنامية المساعدة لتوفير الظروف الاقتصادية الضرورية قصد إقرار الديمقراطية وإقامة دولة القانون واحترام حقوق الإنسان.
إن الإرادة الاختيارية هي المبرر لوجود الكيان السياسي، كما أن إقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان يتأثر بمراحل تطور الجماعة وظروفها الاقتصادية والسياسية، وهو يستقي من هذه المبررات وفلسفتها حسب الحاجة الزمنية إليها، والمدار على مدى وحدة الوعي السياسي لدى جماعة من الجماعات وإمكانيات وقدرات هذه الجماعة في تحقيق سيادتها وإقرار دولة القانون.
* الاعتبار الاقتصادي من الاعتبارات التي تتحكم في تحديد مدى احترام حقوق الإنسان :
من الاعتبارات التي تتحكم في تحديد مدى احترام حقوق الإنسان الاعتبار الاقتصادي، لما لهذا الاعتبار من أهمية في ضمان احترام حقوق الأفراد المكونين للدولة، ذلك أن خلق دولة القانون يتوقف على اعتمادها على نفسها اقتصاديا إلى حد ما، ذلك أن الشعور الوطني والقومي والتطلع إلى إقرار المبادئ الأساسية للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان يغذي الأفكار ولا تنشد تقرير المبادئ الديمقراطية أن تدخل في الاعتبار التفكير في اقتصادياتها ومعيشتها وقوتها بنفس القوة التي تفكر فيه في سيادتها وسلطانها، وأن على العواطف أن تخضع من الناحية العملية للضرورات الحياتية والدولية، لذلك كان من اللازم على البلدان الغنية المصنعة أن تقدم للبلدان المتنامية المساعدة لتوفير الظروف الاقتصادية الضرورية قصد إقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
* التكافل الاجتماعي ضمان لحماية حقوق الإنسان في الإسلام :
إن ما يضمن بقاء المجتمع قويا أن يكون فيه تكافل اجتماعي يقوم على أسس الإسلام وتعاليمه القويمة.
والتكافل هو التساند والتضامن، ويكون بين المجموعة الإنسانية التي تكون مجتمعا. وإذا قام هذا التكافل على أسس صحيحة ضمنت فيه عندئذ مصلحة الفرد والجماعة كما قال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء 92).
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
ومن أسباب التكافل الاجتماعي وجود العمل لكل إنسان، فالعمل من أهم وسائل الكسب، قال عليه الصلاة والسلام: "إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده (رواه الإمام أحمد)، وقد هيأ الله الأرض وسخرها للإنسان (وسخر لكم ما في الأرض) (الحج 65) وقال سبحانه: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).
ومن تمام تكافل المجتمع المسلم أن يهيأ لكل فرد من أفراده مستوى معين من الحياة يضمن له ضرورياتها بأي وسيلة مشروعة، قال تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)، (الذاريات: 77).
ومن سمة المجتمع المتكافل أن يكون وسطا متوازنا (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، (البقرة 143) فلا غلوّ، ولا تقصير، ولا إفراط، ولا تفريط، وإنما اعتدال وقصد وقوام، قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا)، (القصص: 77).
* الإنسانية وحدة متكافلة تجعل العدالة الاجتماعية عدالة شاملة لكل مقومات الحياة الإنسانية :
إن نظام الحياة الإنسانية لا يستقيم إلا بالتعاون والتناسق وفق منهج الله وشرعه، وإن طبيعة نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية تجعل العدالة الاجتماعية عدالة إنسانية شاملة لكل مقومات الحياة الإنسانية، ولا تقف عند الماديات والاقتصاديات. وإن القيم في هذه الحياة – مادية معنوية في الوقت ذاته – لا يمكن الفصل بين صفتيها المتحدتين، وأن الإنسانية وحدة متكافلة متناسقة لا جماعات متعارضة متنافرة.
والإسلام يأمر بالتكافل الاجتماعي، وهو يتطلب من الدولة والأفراد القيام بالتزامات إيجابية نحو الغير لمعاونة الضعفاء والحث على الأخذ بروح التعاون والإخاء.
ومن مظاهر التعاون أو "التكافل الاجتماعي" في الشريعة الإسلامية فريضة الزكاة، وهي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام.
والزكاة حق المال، وهي عبادة من ناحية، وواجب اجتماعي من ناحية أخرى، ولذلك سميت "زكاة" والزكاة نماء وطهارة، فهي طهارة للضمير والذمة بأداء الحق المفروض، وهي طهارة للنفس والقلب من فطرة الشح وغريزة حب الذات.
والزكاة حق الجماعة في عنق الفرد، وهي تعاون اجتماعي يجعل للفقير حقا معلوما في أموال الغني، فهي تكليف اجتماعي خالص، ونظامها في الجمع والتوزيع لا يذل الفقير، ولا يجعل الغني يشعر بعزته فوقه. فالزكاة ركن من أركان الإسلام، وضرورة من ضرورات الإيمان، وأداء الزكاة وسيلة من وسائل الحصول على رحمة الله. والأمة مسئولة عن حماية الضعفاء فيها، ورعاية مصالحهم وصيانتها، فهي تتقاضى أموال الزكاة وتنفقها في مصارفها.
* إقرار حقوق الإنسان مرتبط بضمان "حد الكفاية" في الإسلام:
إن أهم ما جاء به الإسلام في مجال حقوق الإنسان هو ما عبر عنه رجال الفقه باصطلاح "حد الغنى Minimum de Richesse "، بمعنى أنه يتعين أن يتوافر لكل فرد بوصفه إنسانا المستوى اللائق للمعيشة، والذي يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، وهو ما يوفره لنفسه بجهده وعمله، فإذا عجز عن ذلك لسبب خارج عن إرادته كمرض أو عجز أو شيخوخة، إن نفقته تكون واجبة في بيت مال المسلمين، أي خزينة الدولة، أيا كانت ديانة هذا الفرد، وأيا كانت جنسيته، باعتباره حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق.
واصطلاح "حد الكفاية" أو "حد الغنى" وإن لم يرد صراحة في نص من نصوص القرآن أو السنة، إلا أنه يستفاد من مفهوم هذه النصوص، وقد ورد صراحة في تعبيرات أئمة الإسلام وكذا في مختلف كتب الفقه.
1) قال سيدنا عمر بن الخطاب: "إذا أعطيتم فأغنوا"(3) .
2) وقال سيدنا بن أبي طالب: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم"(4) .
3) ويقول الإمام الماوردي: "فيدفع إلى الفقير والمسكين من الزكاة ما يخرج به من اسم الفقر والمسكنة إلى أدنى مراتب الغنى"، كما يقول: "تقدير العطاء معتبر بالكفاية"(5) .
4) ويقول الإمام السرخسي: "وعلى الإمام أن يتقي الله في رف الأموال إلى المصارف، فلا يدع فقيرا إلا أعطاه من الصدقات حتى يغنيه وعياله، وإن احتاج بعض المسلمين وليس في بيت المال من الصدقات شيء أعطى الإمام ما يحتاجون من بيت المال"(6) .
5) ويقول الإمام ابن تيمية: "الفقير الشرعي المذكور في الكتاب والسنة الذي يستحق من الزكاة والمصالح ونحوها ليس هو الفقير الاصطلاحي الذي يتقيد بلبسة معينة أو طريقة معينة، بل كل من ليس له كفاية تكفيه وتكفي عياله فهو من الفقراء والمساكين"(7) .
6) ويقول الإمام الشاطبي: "الكفاية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال"( .
7) قصة الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الشيخ الضرير اليهودي، حيث ثبت له عجزه وحاجته، فقرر له راتبا مستمرا يصرف له من بيت مال المسلمين، واستند الخليفة عمر في ذلك إلى قوله تعالى في سورة الذاريات الآية 19: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).
إن الناس سواء في اعتبار البشرية وحقوق الحياة في هذا العالم بحسب الفطرة، ولا أثر لما بينهم من الاختلاف في الألوان واللغات ومحاسن الصور والأنساب. فنشأ عن هذا الاستواء اعتبار التساوي في حق الوجود المعبر عنه بحفظ النفس، وحفظ النسب، وفي وسائل العيش المعبر عنها بحفظ المأوى وحقوق القرار في الأرض. ومن أسباب البقاء على الحالة النافعة المعبر عنها بحفظ العقل وحفظ العرض.
من كل ما سبق يتضح لنا أن إقرار حقوق الإنسان يرتبط أشد الارتباط بضمان "حد الكفاية" أو "حد الغنى" في الإسلام، ومن ثم لا يمكن إلزام البلدان المتنامية بإقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ما لم تقدم البلدان الغنية المصنعة المساعدة لتوفير الظروف الاقتصادية الضرورية لضمان "حد الكفاية" أو "حد الغنى".
* النزعة الاجتماعية التنظيمية في الإسلام:
لا توازن لمجتمع يعيش أفراده في قلق نفسي أو اضطراب روحي:
إن من أهم ما يميز الدين الإسلامي تنسيقه بين شؤون المادة وشؤون الروح، وبانطواء تعاليمه على مبادئ أساسية في التنظيم الاجتماعي بعناه الشامل العميق.
والنزعة الاجتماعية التنظيمية في الإسلام، تورث الشعور بالسلام والطمأنينة، وتكون ناشئة عن تجديد العلاقة بين الفرد وذاته، وبين الفرد وفرد آخر، ثم بين الفرد وخلية بناها أو أسهم في بنائها، وأخيرا بين الفرد والدولة بما يضمن المعيشة المادية ويكفل العدالة الاجتماعية.
وتفسير التنظيم الاجتماعي على هذه الصورة ربما خص الفرد بشيء من العناية والاهتمام، وذلك في نظرنا أمر طبيعي، لا لأن الفرد أعظم من المجتمع، ولكن لأن المجتمع المتوازن إنما يتكون من الأفراد المتوازنين، فلا توازن لمجتمع يعيش أفراده في قلق نفسي أو اضطراب روحي، ولذلك اتجهت إلا الأفراد تكاليف الأديان السماوية، وتشريعات القوانين الوضعية.
كل هذه لمحات وإشارات مستوحاة من أشرف خطاب، وأعظم كتاب، لا تنقضي عجائبه، ولا تنفد معانيه، فإن من أشق التبعات على الباحث أن يتعرف على مراد الله تعالى من محكم كلامه، وأن يقول الكلمة الفاصلة أو القريبة منها أو الشبيهة بها في معنى من معانيه.
من كل ما سبق يتضح لنا أن رسالة الإسلام غيرت مجرى التاريخ وبدلت نظام الحياة، وسمت بالإنسانية، وارتفعت بكرامة الفرد والمجتمع إلى المكان اللائق بهما، حيث السمو في العقيدة، والكمال في النظام وروح الجماعة، وقضت على المبادئ الضارة التي تسيء إلى الحضارة، سواء في العقيدة أو التفكير، أو في الاجتماع، وبعثت شعورا جديدا في العالم كافة، يقوم على إيمان عميق وطيد بمبادئ الحق، والعدالة، والحرية، والمساواة، والأخوة العامة.
قرر الإسلام أسمى المبادئ في قوة وصراحة، وأقام أعدل النظم في تناسق وتماسك، ووضع لكل داء علاجا شافيا، ولكل مشكلة حلا وافيا، وكفلت الشريعة الإسلامية تحقيق العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها بالنسبة للأفراد والجماعات، فقد اعتبرت الفرد قواما للجماعة، وسنت له النظم الصالحة لحياته في نفسه باعتباره عضوا في أسرته، وفي عشيرته وفي أمته، وفي المجتمع الإنساني ليكون لبنة متينة في بنائه وعضوا قويا في كيانه، كما اعتبرت الجماعة عضوا للفرد وظهيرا له في أداء رسالته والتمتع بحقوقه والقيام بواجباته، ووثقت الصلة بين الفرد والجماعة بالتكافل في كثير من الحقوق والواجبات، ولن تدع شأنا من شؤون الفرد والجماعة إلا أنارت في سبيلا.
لقد أقر الإسلام الحقوق المدنية والسياسة، واعترف للإنسان بحقوقه الأساسية وبحريته واستقلاله الفكري والاجتماعي والمالي، وجعله حرا طليقا من كل قيد، إلا من الخضوع لدين الله، وأولي الأمر الذين يحكمون بشريعة الله، ويحفظون الأمن والنظام بين الناس، فرفع الإنسان بذلك من كرامة الإنسان ومعنوياته، وهيأه للمزيد من الحضارة والمدنية.
لقد تأكدت كرامة الإنسان وحقوق الإنسان في شريعة الحق والفضل، شريعة العدل والإحسان، وما أحوج فكرنا الإسلامي المعاصر إلى أن تتضح رؤيته وتتبلور ممارسته في التعامل مع ينابيع الإسلام وأصوله الثابتة ومع المتغيرات المتجددة المتسارعة المتدافعة، وفي ترتيب الأوليات حسب مقاصد الشريعة وحسب الضروريات والحاجيات والتحسينات على ما فصله فقهاؤنا الأعلام.
نسأل الله أن يهدي الإنسان إلى كرمه إلى أن يكون كريما لنفسه كريما لبني جنسه.
إدريس العلوي العبدلاوي
هذا الموضوع منقول للامانه
اثاب الله كاتبه خيرا وجعله في ميزان حسناته
قصة الحقوق قصة الحياة، وقد عرفت القواعد القانونية الحياة حين بدء الحياة، حياة الإنسان في المجتمع. وقد ولدت مع الإنسان حقوقه، وسايرت نشأته وتحولت مع الزمان. عاشت معه في الغار أو في الغاب شريعته الخاصة، تنطق بهواه وتعبر عن قدرته. وقد تعبر في بعض أمره عن طاعته أو حاجته، على أنها كانت في كل حين تدل على ما وصل إليه الإنسان وما أضحى عليه المجتمع في تقدمها عبر العصور، مع نماء الأفكار واتجاه بني البشر إلى حياة اجتماعية تنشد التقارب من المثل والتعلق بالقيم الخلقية والروحية على اختلاف الدول التي أنشئوها وانتظموا في عقدها.
والحق بمعناه العام هو الرخصة التي يقررها الشرع لشخص بالنسبة لفعل معين، ويقابله الواجب، وهو الإلزام الذي يقرره الشرع على شخص بالنسبة لفعل معين. والحق والواجب أمران متلازمان، يؤدي وجود أحدهما إلى وجود الثاني. وذلك لأن تقرير حق لشخص معين يقتضي فرض واجب على آخر أو آخرين دائه له، أو لعدم التعرض له فيه. وكذلك فرض واجب على شخص معين لا يكون إلا وسيلة لاقتضاء حق آخر.
ويقصد بحقوق الإنسان ببساطة أن الإنسان لمجرد كونه إنسانا أي بشرا بصرف النظر عن جنسيته أو ديانته أو أصله العرقي أو لقومي أو وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي يملك حقوقا طبيعية به حتى قبل أن يكون عضوا في مجتمع معين.
إلا أن الإنسان بطبعه يعيش في مجتمع ما، ذلك أن الجماعة أمر ضروري لحياة الإنسان لا يستطيع الحياة بدونها. فالإنسان عاجز بمفرده، مستطيع بغيره، ومن ثم فلا يمكن النظر إلى تلك الحقوق نظرة مجردة فلسفية، بل يتعين النظر إليها في إطار المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان.
إن السبيل إلى ترسيخ القيم كي يتوافر لحقوق الإنسان ما ينبغي لها من احترام هو إبراز أهميتها الفلسفية والعملية رجوعا إلى كرامة الإنسان، واستنادا إلى مصلحة البشر في حياة كريمة لائقة، ورجوعا إلى أصولها الدينية والأخلاقية الخالدة، واستجلاء مبرراتها من المنطق السليم والتفكير العلمي المستنير.
والوسيلة إلى ذلك هي الدراسة المتعمقة التأصيلية التي تجمع بين العلم بنطاق هذه الحقوق وفحواها والدراية بأسانيدها وأسسها، وبين الضمير النقي الذي يعترف بكرامة الإنسان ويؤمن بالمساواة بين بني البشر.
والحقيقة أنه لا يمكن تجريد أي مبدأ من المبادئ من ظروفه المادية والإنسانية، فالسياسة والفكر والاقتصاد والمجتمع ككل، عوامل مؤثرة ومتأثرة في نفس الوقت بالأفراد والجماعات وظروفها الزمنية. لأجل ذلك كانت التعاليم الخلقية ونوع الحكم من الأمور التي شغلت الفلاسفة والمفكرين ردحا من الزمان، ولا زالت تشغل تفكيرهم ما بقي العالم وما بقي صراع المبادئ يحتدم فيه. ومن ثم لا يمكن تأصيل الاتجاه القانوني للمجتمع إلا بالإحاطة بالدراسات الفلسفية.
* العدالة خير للغير، فهي خير لمن يأمر، وشر لمن يلتزم الطاعة:
ويعتبر الإنسان في نظر الفلاسفة مقياس كل شيء، بمعنى أن الحقيقة بالنسبة لكل شخص هي ما يراه هو، لا ما يراه غيره. وقد كان إنكارهم للحقيقة الموضوعية مؤديا إلى إنكار أي وجود للعدالة في ذاتها، أي العدالة المطلقة، والقانون في نظرهم ليس إلا فكرة متغيرة، وهو مظهر للتحكم والقوة، وكل ما يتفق مع رغبة الشخص الأقوى فهو عادل في رأيهم، فالعدالة في نظرهم هي خير للغير، فهي خير لمن يأمر، وشر لمن يلتزم الطاعة(1) .
* الغرض من وجود الدولة، هو كفالة السعادة لجميع الأفراد وضمان حقوقهم:
ومن حيث علاقة الفرد بالدولة يرى "أرسطو" أن الدولة هي المظهر الأسمى لحياة الجماعة، ولكنه لا يذهب كأفلاطون إلى أن وجود الدولة يجب وجود أية جماعة ثانوية، ذلك أن غاية الدولة في تفكير "أفلاطون" غاية شاملة، إذ تحمل على عاتقها كل ما يهم الفرد في حياته، فالغرض من وجود الدولة هو كفالة السعادة لجميع الأفراد. وإذا كانت تعنى بنشاط الفرد في جميع مظاهره، فإن سلطتها يجب أن تكون بلا حدود، وأن لا تترك شيئا لحرية الأفراد. ومن الواضح في النظام الذي يقترحه "أفلاطون" أنه لم يعن بالفرد في ذاته، معترفا له بأي حق خاص أو طبيعي، فهو قد ضحى به في سبيل المصلحة العامة، وهو قد جعل الدولة سيدا مطلقا، بل إنه في سبيل تقوية رابطة الفرد سياسيا بالدولة يصل إلى القول بضرورة إلغاء الملكية الخاصة والأسرة، ويحبذ شيوعية الأموال لتكون جميعها كأسرة واحدة، مما يترتب عليه وحدة كيان الدولة وحدة كاملة.
* الدولة القانونية هي التي تحرص على حماية حقوق الأفراد وحرياتهم في نطاق سيادتها وسلطانها:
لقد مهدت فكرة "العقد الاجتماعي" السبيل لتقرير الحريات العامة للأفراد من خلال البحث فيما استبقاه هؤلاء الأفراد في عقيدتهم من حقوقهم وحرياتهم الطبيعية التي لم ينزلوا عنها للدولة. كما أن هذه الفكرة أدت إلى وصول الكتاب تدريجيا إلى مفهوم الدولة القانونية، أي التي تحرص على حماية حقوق الأفراد وحرياتهم في نطاق سيادتها وسلطانها.
ولا يخضع الأفراد في العقد الاجتماعي لدى "روسو" في ظل الجماعة إلا للإرادة العامة التي يساهمون في تكوينها. والقانون هو التعبير عن هذه الإرادة العامة، وهو ليس أمرا تحكميا. وكل أمر لا يكون مشروعا إلا إذا كان قائما على القانون باعتباره هذه الإرادة العامة.
إن الفقهاء المسلمين قد أدركوا جوهرة نظرية "روسو" وهي التي تقضي بأن الحاكم أو رئيس الدولة يتولى سلطانه من الأمة نائبا عنها، نتيجة لتعاقد حر بينهما، وأنهم عرفوا نظرية "السيادة" كما عبر عنها "روسو" فيما بعد، وإن كانت نظريتهم احتوت على عنصر زائد خاص بها. وهذه الملحوظات ذات مغزى تاريخي هام، فإننا إذا تذكرنا أن هذا المفكر السياسي يعتبر في نظر أهل "أوربا" أبا الديمقراطية الحديثة، وإن كتاب "العقد الاجتماعي" كان يعد بمثابة الإنجيل لدى زعماء الصورة الفرنسية التي ولد منها العالم الغربي الحديث، أدركنا إلى أي حد من الدقة، والسمو والأصالة الفكرية وصل الفكر الإسلامي في أبحاثه القانونية، هكذا قبل مجيء "روسو" وأتباعه بقرون عديدة، وذلك أيضا مع فارق أساسي وجوهري، ذلك أن العقد الذي تكلم عمه "روسو" كان مجرد افتراض، لأنه بني على حالة تخيلها في عصور ماضية سحيقة، ولا يوجد عليها برهان تاريخي، بينما نظرية العقد الإسلامي تستند إلى ماض تاريخي ثابت، هو تجربة الأمة في خلال العصر الذهبي للإسلام، وهو عصر الخلفاء الراشدين.
* الإنسان أصل وأساس القانون، وقيام الدولة ليس إلا نوعا من التوفيق بين الحقوق الثابتة للأفراد:
والإنسان في نظر "لوك" اجتماعي بالطبيعة، وقد كانت له بعض الحقوق كالحريات الشخصية، ولم تكن هناك سلطة قادرة على ضمان هذه الحقوق لأصحابها، ولذا فإن الأفراد اتفقوا على أن ينظموا أنفسهم في جماعة سياسية لتوفير هذا الضمان. وللوصول إلى هذا التنظيم، نزلوا عن بعض حقوقهم الطبيعية وقبلوا تحديدها، وبهذا الاتفاق نشأ العقد الاجتماعي، ولكن الطرف الذي أعطيت له السلطة بهذا العقد ليس له استخدامها طبقا لهواه ومشيئته. ذلك أنه لم يمنح هذه السلطة إلا لحماية حقوق الأفراد، فإن أساء استخدامها فإنه يخل بشروط العقد، مما يؤدي إلى أن يسترد الشعب بقوة الواقع سيادته الأصلية.
ويقول "لوك": إن طاعة المحكومين للحاكم مشروطة بمراعاة الحاكم لشروط العقد الاجتماعي، لأن الواجبات التي تنشأ عن هذا العقد واجبات تبادلية ومتقابلة، فلا التزام على أحد طرفي العقد إن أخل الطرف الآخر بالتزاماته. وعلى ذلك فالدولة في نظر "لوك" لا تعني إنكار حرية الأفراد الطبيعية، وإنما تأكيد هذه الحرية في حدود معينة وتوفير الضمان لها، لأن الأفراد لا ينزلون بالعقد عما لهم من حقوق وحريات إلا بالقدر الذي يكفي لقيام الدولة.
إن القانون يجد أصله وأساسه في الإنسان نفسه، وإن قيام الدولة ليس إلا نوعا من التوفيق بين حقوق ثابتة للأفراد قبل ذلك.
* الدولة وسيلة أو صورة للتوفيق بين الحريات الفردية:
الحرية في رأي "كانت" حق طبيعي، وهو حق قديم لا مكسوب، بل هي جماع الحقوق الطبيعية، فهي القيمة التي تضع الإنسان في مرتبة أسمى من الزاهر الطبيعية. ولو كان الإنسان مجرد ظاهرة طبيعية، لخضع خضوعا كاملا لقانون السببية، ولكن الإنسان له في ذاته وسيلة تجعله ذا قدرة على اختيار أعماله، فالإنسان حر، وهو يحدد أفعاله طبقا للقانون الأخلاقي الذي ينبعث من ذاته نفسها(2) .
وقد تأثر "كانت" من تصويره للدولة بأفكار "روسو"، فهو يأخذ بفكرة العقد الاجتماعي، ويعرف الدولة بأنها ارتباط جمع من الأفراد يعيشون طبقا للقانون، وهذا الارتباط يتحقق باتفاق كل هؤلاء الأفراد، أي بعقد اجتماعي. وهذا العقد في نظر "كانت" ليس إلا فكرة أو تصويرا يراد بالالتجاء إليه تبرير قيام الدولة وتقرير شرعيتها. وهذا هو نفس ما قال به "روسو" من قبل. ولكن "كانت" عرض فركته بكل وضوح وبصورة تستبعد كل لبس أو غموض، فلم يقل كما قال "روسو" إن الدولة نشأت بالاتفاق الحر بين أفرادها، وإنما قال: إن الدولة يجب أن تكون طبقا لفكرة العقد الاجتماعي، فيقام نظامها على ما تؤدي إليه هذه الفكرة من اعتبار الدولة وسيلة أو صورة للتوفيق بين الحريات الفردية.
* المبدأ الأساسي في الإسلام هو تحرير الإنسان، وتكريمه :
تنطلق الحقوق السياسية في الإسلام من مبدأ أساسي هو تحرير الإنسان وتكريمه. فمن أهم جوانب الرسالة الخالدة للشريعة الإسلامية التكفل بحماية الحقوق لأصحابها، وتقرير الحق بصورة واضحة، بحيث لا يكون وجوده محل جدل أوشك يذهب باستقراره، ثم حمايته واحترامه من الناس أجمعين، وتقرير الجزاء الملائم لمن يعتدي عليه أو ينتقص منه.
والحل في الفقه الإسلامي ذو معنى شامل، يدخل فيه معنى الحرية، فتكون الحريات العامة نوعا من الحقوق، فإذا ما ورد في الشريعة الإسلامية أو الفقه الإسلامي كلمة الحق، فقد تعني حقا ماليا، أو حقا لله، أو حقا شخصيا، أو حرية من الحريات، بحسب ما يدل عليه معناها في كل مقام.
ويلاحظ أن دائرة حقوق الله تعالى في الفقه الإسلامي واسعة تتلاقى مع دائرة القانون العام، بينما يدخل حق العبد في دائرة القانون الخاص.
وتقرير الحقوق والواجبات في الإسلام مصدره الله عز وجل الذي هو الحق المبين، وتشريعه هو العدل المطلق الذي لا يحابي ولا يتحامل.
والإيمان بالله خير ضمان لحقوق الإنسان من حيث تقريرها، من حيث إنقاذها، وتدعيمها، والنضال من أجلها.
لقد خلق الله الإنسان واستخلفه في الأرض، ينفذ حكامه، ويطبق شرائعه، وكلفه بالسعي فيها وعمارتها، ومنحه العقل الذي يدرك به بعض أسراره في كونه، إذا أطال النظر، وأمعن التفكير، وسخر له كثيرا من مخلوقاته.
ويتضح من خلال استقراء الأحكام الشرعية في المجالات المتعددة، أن تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في تنظيم الخلق، وهذه المقاصد كما فصلها الإمام الشاطبي لا تعدو ثلاثة أقسام: ضرورية، وحاجية، وتحسينية.
وفي دائرة هذه المقاصد تروج حقوق الإنسان وقد لاح لواؤها وبزغت معالمها.
وبالرغم مما تضمنه العلام العالمي لحقوق الإنسان، والاتفاقيات الدولية اللاحقة له، فإن دين الإسلام كان الأسبق في إعلان تلك الحقوق بمفاهيمها الكاملة، وضماناتها الشاملة في أحسن صورة وأتم بيان.
وكان الأسبق في ربط الحقوق والحريات العامة بوظيفتها الاجتماعية، إذ أناط بهذه الحريات تحقيق المصلحة العامة وابتغاء وجه الباري سبحانه.
ومهما سما العقل البشري في هذا المجال، فهو عاجز وقاصر عما أرشد إليه القرآن من أصول ومبادئ خالدة على مر الزمان.
إن مجيء الإسلام في حد ذاته يعتبر ثورة شاملة على جميع الأوضاع الفاسدة المزرية التي بلغتها الإنسانية في عهود مظلمة سابقة، حيث أهدرت فيها حقوق الفرد وامتهنت كرامته.
وكان الإسلام حاميا شخصية الإنسان بشقيها المادي والروحي ضمانا لعدم التفكك الاجتماعي، والانحلال الخلقي، موازنا بين مصلحة الفرد في صيانة حقوقه الأساسية، ومصلحة الجماعة في التجريم والعقاب.
فالدعوة الإسلامية دعوة عالمية للناس كافة، وتقوم على الكرامة، والحرية، والعدل، والسيادة، والمساواة، وفي إطار من هذه الشمولية، كفل الإسلام للإنسان الحق في الحياة، والكرامة والعدل، والمساواة، وحق العمل، والأمان، وحق الهجرة، كما كفل للإنسان حرية التعبير عن إرادته ليعيش مكرما شريفا، كما أقر له حرية الخيار في الاجتماع مع الآخرين، والافتراق عنهم في حدود المصلحة المشتركة التي تقرر الأغلبية، والإرادة الاختيارية هي المبرر لوجود الكيان السياسي.
وكان كتاب الله الميزان الأعلى، والمعيار الأسمى، والمعين الذي لا ينضب، والسلسبيل الذي لا يغور ولا يذهب، والنبراس المنير الوهاج حين يغم الظلام، وتلتطم الأمواج.
* كرامة الإنسان واضحة من منظور الإسلام وفي بيان القرآن:
إن أول سورة نزلت من سور القرآن الكريم كانت تحمل من معاني التكريم الإنساني والاهتمام بشأنه، وتلمح إلى آثار تكريم الله سبحانه لهذا الإنسان، إذ بمحض الكرم وجد، وبخالص الجود والعطاء اهتدى ورشد، كما تشير هذه السورة التي بدأت بها الرسالة المحمدية إلى سبق العناية الإلهية بهذا الإنسان على سائر المخلوقات، فجعله مهذبا، له قابلية للعلم والفهم.
(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق لإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).
لقد انطلقت الحقوق المدنية والسياسية في الإسلام من المبدأ الإسلامي الأساسي المتمثل في تكريم الإنسان وتحريره. وقد صرح الخالق العظيم سبحانه بهذا التكريم.
فقال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
وهذه الآية من سورة الإسراء المكية، والقرآن المكي يتعلق في أغلبيته بتقرير العقيدة الإسلامية في النفوس، ودفاع عن الرسالة المحمدية، وعناية بأمور البعث والآخرة.
وله تعلق آخر، وهو المبادئ الأخلاقية والإنسانية والاجتماعية، ومحل هذه الآية بين ما سبق وما لحق من الآيات يدل على أن تسخير هذا الكون من الله سبحانه للإنسان من بحر وبر، ومع تكريم الله يجب أن يقترن بطاعته والاعتراف بوحدانيته ليكون مهتديا في الدنيا والآخرة. كما حمل الآية نوعا من الترغيب في تقدير النعمة وشكرها، وجاء هذا الترغيب بين ترهيبين.
ومن الآيات القرآنية الدالة في نفس المعنى على تكريم الله تعالى للإنسان – وما أكثرها -، قوله تعالى:
1- _هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) (البقرة" 29).
2- (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) (البقرة: 32).
3- (الله الذي خلق السموات والأرض، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم، وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار، وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الإنسان لظلوم كفور) (إبراهيم: 32 – 34).
4- (وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير).
5- والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين، لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، (التين: 4).
وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات)، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
وقال عبد الرحمان بن الجوزي في "زاد المسير" : (ولقد كرمنا بني آدم)، أي فضلناهم، قال أبو عبيدة: وللمفسرين فيما فضلوا به أحد عشر قولا :
• أحدهم: أنهم فضلوا على سائر الخلق غير طائفة من الملائكة: جبريل وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وأشباههم، قاله أبو صالح عن ابن عباس فعلى هذا يكون المراد: المؤمنين منهم، ويكون تفضيلهم بالإيمان.
• والثاني : أن سائر الحيوان يأكل بفيه، إلا ابن آدم فإنه يأكل بيده (رواه ميمون بن عمران عن ابن عباس).
وقال بعض المفسرين: المراد بهذا التفضيل أكلهم بأيديهم، ونظافة ما يقتاتونه، إذ الجن يقتاتون العظام والروث.
• والثالث : فضلوا بالعقل، (روي عن ابن عباس).
• والرابع: بالنطق والتمييز (قاله الضحاك).
• والخامس: بتعديل القامة وامتدادها (قاله عطاء).
• والسادس: بأن جعل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم منهم (قاله محمد ابن كعب).
• والسابع: فضلوا بالمطاعم واللذات في الدنيا، (قاله زيد ابن أسلم).
• والثامن: بحسن الصورة (قاله يمان).
• والتاسع: بتسليطهم على غيرهم من الخلق، وتسخير الخلق لهم، (قاله محمد ابن جرير).
• والعاشر: بالأمر والنهي، (ذكره الماوردي).
• والحادي عشر: بأن جعلت اللّحى للرجال، والدوائب للنساء (ذكره الثعلبي).
ورجع أكثر المفسرين القدامى والمحدثين، منهم الفخر الرازي، والقرطبي، والألوسي، والشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله أن مناط التكريم هو العقل.
قال القطبي: "والصحيح الذي يعول عليه أن التفضيل إنما كان بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وبه يعرف الله ويفهم كلامه، ويوصل إليه نعيمه وتصديق رسله، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد، بعثت الرسل، وأنزلت الكتب". وما ذكره المفسرون من متعلقات التفضيل فهو على سبيل المثال لا الحصر، وهذا ما أكده "الألوسي" في تفسيره لهذه الآية، وإنما يعتبر العقل في أعلى مزية للتفضيل.
قال سيد قطب في "الظلال" :
"وقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه، كرمه بخلقته على تلك الهيئة، بهذه الفطرة التي تجمع بين الطين والنفخة، فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان.
وكرمه بالاستعدادات التي أودعها فطرته، والتي استأهل بها الخلافة في الأرض، يغير فيها ويبدل، وينتج فيها وينشئ، ويركب فيها ويحلل، ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض، وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم الذي استقبله به الوجود، وبذلك الموكب الذي تسجد فيه الملائكة، ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان.
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتباه المنزل من الملأ الأعلى، الباقي في الأرض، القرآن.
وإن أكبر تكريم للإنسان هو تمتعه بنعمة العلم دون سائر المخلوقات.
من كل ما سبق يتضح لنا أن كرامة بني آدم واضحة في منظر الإسلام وفي بيان القرآن، بنص هذه الآية وبالنصوص الأخرى التي تتحدث عن إسجاد الملائكة أو أمرهم بالسجود لآدم، وعن استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها، وأن عناصر التكريم والتمييز التي اختص الله بها بني آدم حتى يستطيعوا أن ينالوا هذه المكانة، وأن يؤدوا هذه المهمة يمكن إجمالها في الملائمة الجسدية من حيث تناسق تركيب الجسم، ومن حيث كفايته الوظيفية أعضاء وكلا، ومن حيث تلاؤم الإنسان مع البيئة واستطاعته التكيف معها. فهناك علاقة بين الأرض والسماء، وبين تصوير الإنسان في أحسن صورة وبين رزقه من الطيبات، كل هذا التكامل والاكتمال والتفاعل والتبادل والتأثير يجعل الإنسان قادرا على إثبات وظيفته وخلافته وعمارة الأرض، والله تعالى هو الخالق البارئُ المصور، ويتميز هذا في خلق الإنسان، والخالق غير البارئُ في المعنى الدقيق، والمصور معنى ثالث، وكل هذا تمثل في خلق الإنسان، فتبارك الله أحسن الخالقين.
ومن صورة الإنسان وتصويره المحكم أنه جمع إلى جمال الصورة وتناسق التركيب كفاية الأعضاء والوظائف، وقد اجتمعت الطاقات المعنوية إلى جانب طاقته الجسدية، لكي يعمر الأرض ويستخلف عليها،وإلى جانب هذا كله ومن قبله ومن بعده كانت الروح التي نفخها الله في هذا الآدمي ليكون عالميا، وليكون متنقلا في أرجاء الأرض، ليس مقصورا على مكان هو مسقط رأسه، ولا متحركا في نطاق محدود، وإنما تحمله أجواء الماء وأجواء الفضاء إلى كل العوالم التي يستطيع أن يكتشفها تسبيحا بحمد الله وفضله في الآفاق.
هذا الإنسان بخلقته وفطرته وطاقاته وقدراته كرمه الله في السماء بذكره في الملأ الأعلى، والنفخ فيه من روحه، وإسجاده ملائكته المقربين له.
فال عجب أن يكرم الله الإنسان في الأرض بما وهبه من عقل وإرادة ونطق، وما سخر له في هذا الكون من طاقات، وما أنزل إليه من هداية وكتبه وإرشاد رسله.
* غاية الشريعة تحقيق العدالة، وحماية مصلحة الإنسان كخليقة في المجتمع الذي هو منه:
إن الشريعة الإسلامية تعتمد قبل كل شيء على وجدان الإنسان، لا على قوات السلطان، إنها ذات مهمة، هي إسعاد الناس وتدبير مصالحهم، لا مراقبتهم والتدخل في شؤونهم الخاصة، والعقوبات التي شرعها الإسلام هي قليلة العدد بالنسبة لعموم الجرائم، ثم هي في نظر الكثير من العلماء كفارات لما ارتكب الإنسان من إثم، فيرجع إليه إذن واجب التقدم لتنفيذها عليه حتى يطهر نفسه مما اقترفه، أو هي زواجر لإصلاح حالة المجتمع، وحماية من ضعف الوجدان الإنساني فيه.
فسلطة القانون إذن وجدانية قبل أن تكون حكومية، وتدخل الدولة في أعمال الإنسان الشخصية ضرورة لا ينبغي أن تتجاوز محلها.
إن غاية الشريعة هي مصلحة الإنسان، كخليقة في المجتمع لذي هو منه، وكمسئول أمام الله الذي استخلفه على إقامة العدل والإنصاف، وضمان السعادة الفكرية والاجتماعية والطمأنينة النفسية لكل أفراد الأمة.
فاتباع الطاعة في الأعمال الإنسانية يجعلها أعمالا شرعية، والخروج عنها يجعل العمل الإنساني في طار خارج عن الشريعة، ومن ثم فهو خارج عن الفطرة، وهذا السلوك الموجه لا ينال به الفرد رضا الله فقط، ولكنه حينما ينظر إليه إخوانه في الدين، ويرون فيه القدوة الصالحة يحترمونه ويرون فيه لدليل العملي لنفاذ الخطابات الإلهية فيتبعونه، وبذلك يصبح مرضيا عند الناس وذا أثر فعال في خلق المجتمع الإسلامي المتمتع بالحقوق المؤدي للواجبات.
وليكون الإنسان نفسه الحارس على ضمان العدالة ونشر الحق، لم يكتف الشارع بالتكليف بظاهر القانون والقضاء، بل كلف الإنسان أن ينصف غيره من نفسه ولو كان القانون أو القضاء في جانبه.
وإذا كان القانون الوضعي يهتم بالمساواة، فإن الشريعة الإسلامية تهتم بتحقيق العدالة. فالمساواة تعني فقط تطبيق القانون القائم على الجميع، كيفما كان القانون وكيفما كان الوضع أو النظام المستقر في البلد، بينما الشريعة الإسلامية تقصد إلى تحقيق العدالة. ولا تعترف بأي قانون مناف لمقاصدها، وق قال عليه الصلاة والسلام: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود على صاحبه، فأسباب الدولة نفسها لا تكفي لفرض القانون إلا إذا كانت تبررها الغاية المقصودة من بناء لدولة وهي ضمان العدالة، وتعميم الحرية لجميع المواطنين.
* احترام حقوق الإنسان يتأثر بمراحل تطور الجماعة وظروفها الاقتصادية والسياسية:
لقد أصبحت الدول المستقلة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، وقوي ساعدها، وصارت عونا للشعوب التي ما زالت تكافح المستعمر في شتى بقاع العالم، وأخذ الضمير العالمي ينادي بإقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، ونالت أكثر الشعوب استقلالها، وصارت دولا أعضاء يجلسون إلى جانب مستعمريهم السابقين، كما صارت الدول الغنية المصنعة تجلس بجانبها الدول المتنامية، وتطورت ظروف العالم إلى تصنيف جديد: دول قوية جدا، ودول تتفاوت في الضعف، وإن المنطق والضرورات السياسية والاقتصادية وكذلك الاكتشافات الكونية التي أظهرت العالم شاسعا ممتدا إلى ما لا نهاية به، جديرة بأن تحفز البلدان والشعوب إلى تكتلات إقليمية، أساسها الجوامع المشتركة، والتكامل الاقتصادي والثقافي، بحثا عن المنعة والصمود لمواجهة أية سياسة هيمنية معادية، كما على البلدان الغنية المصنعة أن تقدم للدول المتنامية المساعدة لتوفير الظروف الاقتصادية الضرورية قصد إقرار الديمقراطية وإقامة دولة القانون واحترام حقوق الإنسان.
إن الإرادة الاختيارية هي المبرر لوجود الكيان السياسي، كما أن إقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان يتأثر بمراحل تطور الجماعة وظروفها الاقتصادية والسياسية، وهو يستقي من هذه المبررات وفلسفتها حسب الحاجة الزمنية إليها، والمدار على مدى وحدة الوعي السياسي لدى جماعة من الجماعات وإمكانيات وقدرات هذه الجماعة في تحقيق سيادتها وإقرار دولة القانون.
* الاعتبار الاقتصادي من الاعتبارات التي تتحكم في تحديد مدى احترام حقوق الإنسان :
من الاعتبارات التي تتحكم في تحديد مدى احترام حقوق الإنسان الاعتبار الاقتصادي، لما لهذا الاعتبار من أهمية في ضمان احترام حقوق الأفراد المكونين للدولة، ذلك أن خلق دولة القانون يتوقف على اعتمادها على نفسها اقتصاديا إلى حد ما، ذلك أن الشعور الوطني والقومي والتطلع إلى إقرار المبادئ الأساسية للديمقراطية واحترام حقوق الإنسان يغذي الأفكار ولا تنشد تقرير المبادئ الديمقراطية أن تدخل في الاعتبار التفكير في اقتصادياتها ومعيشتها وقوتها بنفس القوة التي تفكر فيه في سيادتها وسلطانها، وأن على العواطف أن تخضع من الناحية العملية للضرورات الحياتية والدولية، لذلك كان من اللازم على البلدان الغنية المصنعة أن تقدم للبلدان المتنامية المساعدة لتوفير الظروف الاقتصادية الضرورية قصد إقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
* التكافل الاجتماعي ضمان لحماية حقوق الإنسان في الإسلام :
إن ما يضمن بقاء المجتمع قويا أن يكون فيه تكافل اجتماعي يقوم على أسس الإسلام وتعاليمه القويمة.
والتكافل هو التساند والتضامن، ويكون بين المجموعة الإنسانية التي تكون مجتمعا. وإذا قام هذا التكافل على أسس صحيحة ضمنت فيه عندئذ مصلحة الفرد والجماعة كما قال تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) (الأنبياء 92).
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا".
ومن أسباب التكافل الاجتماعي وجود العمل لكل إنسان، فالعمل من أهم وسائل الكسب، قال عليه الصلاة والسلام: "إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده (رواه الإمام أحمد)، وقد هيأ الله الأرض وسخرها للإنسان (وسخر لكم ما في الأرض) (الحج 65) وقال سبحانه: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور).
ومن تمام تكافل المجتمع المسلم أن يهيأ لكل فرد من أفراده مستوى معين من الحياة يضمن له ضرورياتها بأي وسيلة مشروعة، قال تعالى: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)، (الذاريات: 77).
ومن سمة المجتمع المتكافل أن يكون وسطا متوازنا (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، (البقرة 143) فلا غلوّ، ولا تقصير، ولا إفراط، ولا تفريط، وإنما اعتدال وقصد وقوام، قال تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا)، (القصص: 77).
* الإنسانية وحدة متكافلة تجعل العدالة الاجتماعية عدالة شاملة لكل مقومات الحياة الإنسانية :
إن نظام الحياة الإنسانية لا يستقيم إلا بالتعاون والتناسق وفق منهج الله وشرعه، وإن طبيعة نظرة الإسلام إلى الحياة الإنسانية تجعل العدالة الاجتماعية عدالة إنسانية شاملة لكل مقومات الحياة الإنسانية، ولا تقف عند الماديات والاقتصاديات. وإن القيم في هذه الحياة – مادية معنوية في الوقت ذاته – لا يمكن الفصل بين صفتيها المتحدتين، وأن الإنسانية وحدة متكافلة متناسقة لا جماعات متعارضة متنافرة.
والإسلام يأمر بالتكافل الاجتماعي، وهو يتطلب من الدولة والأفراد القيام بالتزامات إيجابية نحو الغير لمعاونة الضعفاء والحث على الأخذ بروح التعاون والإخاء.
ومن مظاهر التعاون أو "التكافل الاجتماعي" في الشريعة الإسلامية فريضة الزكاة، وهي الركن الاجتماعي البارز من أركان الإسلام.
والزكاة حق المال، وهي عبادة من ناحية، وواجب اجتماعي من ناحية أخرى، ولذلك سميت "زكاة" والزكاة نماء وطهارة، فهي طهارة للضمير والذمة بأداء الحق المفروض، وهي طهارة للنفس والقلب من فطرة الشح وغريزة حب الذات.
والزكاة حق الجماعة في عنق الفرد، وهي تعاون اجتماعي يجعل للفقير حقا معلوما في أموال الغني، فهي تكليف اجتماعي خالص، ونظامها في الجمع والتوزيع لا يذل الفقير، ولا يجعل الغني يشعر بعزته فوقه. فالزكاة ركن من أركان الإسلام، وضرورة من ضرورات الإيمان، وأداء الزكاة وسيلة من وسائل الحصول على رحمة الله. والأمة مسئولة عن حماية الضعفاء فيها، ورعاية مصالحهم وصيانتها، فهي تتقاضى أموال الزكاة وتنفقها في مصارفها.
* إقرار حقوق الإنسان مرتبط بضمان "حد الكفاية" في الإسلام:
إن أهم ما جاء به الإسلام في مجال حقوق الإنسان هو ما عبر عنه رجال الفقه باصطلاح "حد الغنى Minimum de Richesse "، بمعنى أنه يتعين أن يتوافر لكل فرد بوصفه إنسانا المستوى اللائق للمعيشة، والذي يختلف باختلاف الزمان والمكان والأشخاص، وهو ما يوفره لنفسه بجهده وعمله، فإذا عجز عن ذلك لسبب خارج عن إرادته كمرض أو عجز أو شيخوخة، إن نفقته تكون واجبة في بيت مال المسلمين، أي خزينة الدولة، أيا كانت ديانة هذا الفرد، وأيا كانت جنسيته، باعتباره حق الله الذي يعلو فوق كل الحقوق.
واصطلاح "حد الكفاية" أو "حد الغنى" وإن لم يرد صراحة في نص من نصوص القرآن أو السنة، إلا أنه يستفاد من مفهوم هذه النصوص، وقد ورد صراحة في تعبيرات أئمة الإسلام وكذا في مختلف كتب الفقه.
1) قال سيدنا عمر بن الخطاب: "إذا أعطيتم فأغنوا"(3) .
2) وقال سيدنا بن أبي طالب: "إن الله فرض على الأغنياء في أموالهم بقدر ما يكفي فقراءهم"(4) .
3) ويقول الإمام الماوردي: "فيدفع إلى الفقير والمسكين من الزكاة ما يخرج به من اسم الفقر والمسكنة إلى أدنى مراتب الغنى"، كما يقول: "تقدير العطاء معتبر بالكفاية"(5) .
4) ويقول الإمام السرخسي: "وعلى الإمام أن يتقي الله في رف الأموال إلى المصارف، فلا يدع فقيرا إلا أعطاه من الصدقات حتى يغنيه وعياله، وإن احتاج بعض المسلمين وليس في بيت المال من الصدقات شيء أعطى الإمام ما يحتاجون من بيت المال"(6) .
5) ويقول الإمام ابن تيمية: "الفقير الشرعي المذكور في الكتاب والسنة الذي يستحق من الزكاة والمصالح ونحوها ليس هو الفقير الاصطلاحي الذي يتقيد بلبسة معينة أو طريقة معينة، بل كل من ليس له كفاية تكفيه وتكفي عياله فهو من الفقراء والمساكين"(7) .
6) ويقول الإمام الشاطبي: "الكفاية تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال"( .
7) قصة الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع الشيخ الضرير اليهودي، حيث ثبت له عجزه وحاجته، فقرر له راتبا مستمرا يصرف له من بيت مال المسلمين، واستند الخليفة عمر في ذلك إلى قوله تعالى في سورة الذاريات الآية 19: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم).
إن الناس سواء في اعتبار البشرية وحقوق الحياة في هذا العالم بحسب الفطرة، ولا أثر لما بينهم من الاختلاف في الألوان واللغات ومحاسن الصور والأنساب. فنشأ عن هذا الاستواء اعتبار التساوي في حق الوجود المعبر عنه بحفظ النفس، وحفظ النسب، وفي وسائل العيش المعبر عنها بحفظ المأوى وحقوق القرار في الأرض. ومن أسباب البقاء على الحالة النافعة المعبر عنها بحفظ العقل وحفظ العرض.
من كل ما سبق يتضح لنا أن إقرار حقوق الإنسان يرتبط أشد الارتباط بضمان "حد الكفاية" أو "حد الغنى" في الإسلام، ومن ثم لا يمكن إلزام البلدان المتنامية بإقرار الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ما لم تقدم البلدان الغنية المصنعة المساعدة لتوفير الظروف الاقتصادية الضرورية لضمان "حد الكفاية" أو "حد الغنى".
* النزعة الاجتماعية التنظيمية في الإسلام:
لا توازن لمجتمع يعيش أفراده في قلق نفسي أو اضطراب روحي:
إن من أهم ما يميز الدين الإسلامي تنسيقه بين شؤون المادة وشؤون الروح، وبانطواء تعاليمه على مبادئ أساسية في التنظيم الاجتماعي بعناه الشامل العميق.
والنزعة الاجتماعية التنظيمية في الإسلام، تورث الشعور بالسلام والطمأنينة، وتكون ناشئة عن تجديد العلاقة بين الفرد وذاته، وبين الفرد وفرد آخر، ثم بين الفرد وخلية بناها أو أسهم في بنائها، وأخيرا بين الفرد والدولة بما يضمن المعيشة المادية ويكفل العدالة الاجتماعية.
وتفسير التنظيم الاجتماعي على هذه الصورة ربما خص الفرد بشيء من العناية والاهتمام، وذلك في نظرنا أمر طبيعي، لا لأن الفرد أعظم من المجتمع، ولكن لأن المجتمع المتوازن إنما يتكون من الأفراد المتوازنين، فلا توازن لمجتمع يعيش أفراده في قلق نفسي أو اضطراب روحي، ولذلك اتجهت إلا الأفراد تكاليف الأديان السماوية، وتشريعات القوانين الوضعية.
كل هذه لمحات وإشارات مستوحاة من أشرف خطاب، وأعظم كتاب، لا تنقضي عجائبه، ولا تنفد معانيه، فإن من أشق التبعات على الباحث أن يتعرف على مراد الله تعالى من محكم كلامه، وأن يقول الكلمة الفاصلة أو القريبة منها أو الشبيهة بها في معنى من معانيه.
من كل ما سبق يتضح لنا أن رسالة الإسلام غيرت مجرى التاريخ وبدلت نظام الحياة، وسمت بالإنسانية، وارتفعت بكرامة الفرد والمجتمع إلى المكان اللائق بهما، حيث السمو في العقيدة، والكمال في النظام وروح الجماعة، وقضت على المبادئ الضارة التي تسيء إلى الحضارة، سواء في العقيدة أو التفكير، أو في الاجتماع، وبعثت شعورا جديدا في العالم كافة، يقوم على إيمان عميق وطيد بمبادئ الحق، والعدالة، والحرية، والمساواة، والأخوة العامة.
قرر الإسلام أسمى المبادئ في قوة وصراحة، وأقام أعدل النظم في تناسق وتماسك، ووضع لكل داء علاجا شافيا، ولكل مشكلة حلا وافيا، وكفلت الشريعة الإسلامية تحقيق العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها بالنسبة للأفراد والجماعات، فقد اعتبرت الفرد قواما للجماعة، وسنت له النظم الصالحة لحياته في نفسه باعتباره عضوا في أسرته، وفي عشيرته وفي أمته، وفي المجتمع الإنساني ليكون لبنة متينة في بنائه وعضوا قويا في كيانه، كما اعتبرت الجماعة عضوا للفرد وظهيرا له في أداء رسالته والتمتع بحقوقه والقيام بواجباته، ووثقت الصلة بين الفرد والجماعة بالتكافل في كثير من الحقوق والواجبات، ولن تدع شأنا من شؤون الفرد والجماعة إلا أنارت في سبيلا.
لقد أقر الإسلام الحقوق المدنية والسياسة، واعترف للإنسان بحقوقه الأساسية وبحريته واستقلاله الفكري والاجتماعي والمالي، وجعله حرا طليقا من كل قيد، إلا من الخضوع لدين الله، وأولي الأمر الذين يحكمون بشريعة الله، ويحفظون الأمن والنظام بين الناس، فرفع الإنسان بذلك من كرامة الإنسان ومعنوياته، وهيأه للمزيد من الحضارة والمدنية.
لقد تأكدت كرامة الإنسان وحقوق الإنسان في شريعة الحق والفضل، شريعة العدل والإحسان، وما أحوج فكرنا الإسلامي المعاصر إلى أن تتضح رؤيته وتتبلور ممارسته في التعامل مع ينابيع الإسلام وأصوله الثابتة ومع المتغيرات المتجددة المتسارعة المتدافعة، وفي ترتيب الأوليات حسب مقاصد الشريعة وحسب الضروريات والحاجيات والتحسينات على ما فصله فقهاؤنا الأعلام.
نسأل الله أن يهدي الإنسان إلى كرمه إلى أن يكون كريما لنفسه كريما لبني جنسه.