الاعتراف اخطر الادلة (نظرة واقعية)
منقووووووول
القاضي: رحيم حسن العكيلي ( العراق )
تبنت الانظمة التحقيقية التقليدية - فيما مضى - قاعدة ( الاعتراف سيد الادلة ) التي كانت تخفي خلفها حقيقة رهيبة ، تتعلق بعجز تلك الاجهزة التحقيقية عن كشف الجريمة ، والوصول الى مرتكبيها ، الامر الذي اضطرها الى الضغط على المتهمين لاخذ اعترافاتهم بالجريمة ، وروجت ( تلك الانظمة العاجزة ) – بقوة - لاقرار وتبني القاعدة المذكورة ، تلك القاعدة المظللة غير المنصفة ، التي لا زالت بعض الانظمة القانونية المعاصرة - التي عجزت عن مسايرة التقدم - ترددها وتعمل بها ، ليس من منطلق الايمان بها ، بل لاخقاء عجزها القاتل عن الكشف عن مرتكبي الجرائم .
فتلك الانظمة المتخلفة ظلت عاجزة تماما عن كشف مرتكبي الجرائم لعدم توفر قدرات ولا اجهزة ولا مختبرات او علماء قادرون على جمع ادلة حقيقية عن الجريمة ، ورغم ان الامر تغير تماما مع التطور العلمي والتقني الذي انعكس على الاجهزة والادوات والوسائل التحقيقية فاصبح من الصعب جدا افلات مجرم من العقاب ، ليس باكراهه على الاعتراف - كما كانت تفعل الانظمة التحقيقية التقليدية- بل بجمع ادلة مادية لا يكذبها شئ ولا تخطأ – غالبا - في تحديد المجرم الحقيقي .
الا ان بعض الانظمة التحقيقية والقضائية المعاصرة عجزت عن مسايرة التقدم فظلت متمسكه بـ :- ( الاعتراف كسيد للادلة ) على الرغم من مساوئه الخطيرة جدا ، وعلى الرغم من ان تبني المحاكم لتلك القاعدة شجع الجهات التحقيقية على استعمال ابشع وسائل الاكراه والتعذيب لانتزاعه ، ما دامت المحاكم تأخذ بالاعتراف المنتزع بالاكراه ، وما دامت لا تلاحق بطريقة جدية من يرتكب تلك الافعال من الضباط والمحققين ، وما دام اثبات تعرض المتهم للتعذيب مسألة شبه مستحيلة خصوصا في حالات استعمال وسائل الاكراه والتعذيب التي لا تترك اثرا ماديا ملموسا .
وسنحاول فيما يلي عرض وجوه الضعف والخطورة في تبني الاعتراف كدليل من وجهة نظر واقعية - خصوصا لدى الانظمة القانونية التي تعجز عن ايقاف ممارسات انتزاع الاعترافات بالتعذيب والاكراه والضغط – في خمس مطالب نخصص الاول لبحث دوافع الاعتراف ، ونتعرض في الثاني لمدى مطابقة الاعترافات للواقع ، ونتناول في الثالث البحث في الاعترافات المنتزعة بالضغط او الاكراه ، اما المطلب الرابع فنخصصه لتحديد دوافع الجهات التحقيقية لانتزاع الاعترافات ، ونتعرض في المطلب الاخير الى اسباب اعتبار الاعتراف اخطر الادلة .
المطلب الاول
دوافع الاعتراف
فما الذي يدفع متهما - قد يلاقي عقوبة الاعدام او السجن لمدة طويلة قد تكلفه حياته كلها - الى الاعتراف ؟ فيما يلي بعض دوافع المتهمين على الاعتراف بالجريمة :-
حماية شخص وثيق الصلة به :- وتحمل عقوبة الجريمة بدلا عنه ، كالاب او الاخ او الام او الزوجة او الاب او الحبيبة ... الخ ، وهو صورة من صور ( الاعتراف افتداءا للغير ) . وهذه اما ان تكون بأندفاع من الشخص من تلقاء نفسه ، او بدفع من اخرين ، ويقع كثيرا – في العراق - ان تدفع العوائل بالاحداث ( الصغار ) للاعتراف بارتكاب جرائم ارتكبها اقاربهم الكبار لتجنب الحكم عليهم ( اي على الكبار ) بالاعدام .
الاعتراف بالجريمة لقاء منفعة مادية :- لتبرئة المجرم الحقيقي وتحمل عواقب الجريمة بدلا عنه ، وهو الصورة الثانية من صور ( الاعتراف افتداءا للغير ) ، اذ وقع في التسعينات من القرن الماضي ان اعترف شرطي على ارتكابه جريمة قتل كانت تشير القرائن المتوفرة فيها الى ارتكابه من احد ابناء المسؤولين في واسط ، وحينما حكم الشرطي بالاعدام انتفض معلنا بان والد المجرم الحقيقي وعده بان لا يحكم بالاعدام وانه يخرجه من السجن لاحقا بعفو خاص ودفع له مبلغ جيد من المال لقاء تحمله الجريمة بدلا عن ولده ، وظهر لاحقا صحة اقواله ، فحكم على ابن المسؤول وافرج عن الشرطي ، ثم تمكن المسؤول من اخراج ابنه بعفو خاص من صدام حسين .
الاعتراف لخلط الحقائق :- اذ سارت بعض المجاميع الارهابية على ان تعترف كل منها بنفس الجريمة ولكن برواية مختلفة وباشخاص مختلفين مما يؤدي الى سقوط جميع الاعترافات والافراج عن المتهمين المعترفين جميعا، ما دامت المحاكم تجد اكثر من مجموعة تعترف بارتكاب نفس الجريمة وبروايات مختلفة ، لصعوبة او استحالة تحديد المجموعة التي ارتكبت الجريمة فعلا من بين المجاميع المسلحة التي اعترفت كل منها على حده بارتكابها .
اعتراف اليائس :- ويقصد به اعتراف مجرم محكوم بالاعدام بحكم بات بجريمة او عدد من الجرائم لم يرتكبها من اجل انقاذ متهمين اخرين لم يحكموا لحد الان عنها ، لانه محكوم بالاعدام ولن يضره شئ اذا حكم مرة او مرات جديدة بالاعدام . وهذه واحدة من الاستراتيجيات التي تبنتها الجماعات المسلحة لتقليل خسائرها وانقاذ بعض اعضائها من الحكم عليهم ، ولا تعد هذه الصورة – لدينا - من صور ( الاعتراف افتداءا للغير ) لان المتهم المعترف هنا لا يفتدي غيره بالتضحية بنفسه على خلاف المعترف لحماية شخص وثيق الصلة او المعترف لقاء منفعة مادية فهذين يضحيان بانفسهما لانقاذ المجرم الحقيقي، اما في صورة المعترف اليائس فأن المعترف – هنا – محكوم بالاعدام فلن يتضرر من اعترافه بجريمة اخرى ما دام انه سيواجه عقوبة واحدة هي الاعدام مرة واحدة .
صحوة الضمير :- وهو الدافع الذي لا يشك في صحة الاعتراف الذي ينتج عنه ، الا انه نادر الوقوع .
ايمان المتهم بسلامة تصرفه حينما ارتكب الجريمة :- كالاخ الذي يسلم نفسه الى مركز الشرطة بعد قتله اخته الباكر غسلا للعار حينما ظهر بانها حامل . وكمن يأخذ بثأره من عدوه .
الاعتراف لبساطة الجريمة :- اذ يعترف مرتكبوا جرائم الخطأ غالبا كمن يدهس شخصا بسيارته ، وكذلك يعترف مرتكبي المخالفات البسيطة كتجاوز الاشارة الضوئية او عدم ربط حزام الامان ، لتفاهة الجريمة والعقوبة ، الا ان تلك الاعترافات الصادرة من المتهمين في هذه الحالات - غالبا - ما يضاف اليها وقائع كاذبة لتبرير افعالهم ، او لالحاق صفة ما بها تخلصا من العقوبة او لتخفيفها ، او على الاقل يعرض المتهم الواقعة بطريقة تخفف من خطأه او تبالغ في خطأ المجنى عليه او تنسب اليه خطأ لم يرتكبه .
الاعتراف انتقاما او نكاية باخرين :- فقد يعترف المتهم بارتكاب جريمة ما من اجل الاضرار باشخاص اخرين حينما يدعي تحريضهم له او اشتراكهم معه فيه ، لاجل الايقاع بهم والحاق الاذى الجسيم من انزال عقوبة جزائية ما بهم كسجنهم ، او تشويه صورتهم وسمعتهم في الاقل . وقد يعترف الابن لالحاق الاذى بوالدته او والده فيعذبهم نكدا وحسرة عليه لعدم استجابتهم لطلباته او لعدم موافقتهم على زواجه من فتاة يريدها او لعدم منحه الاموال التي يطلبها .
الاعتراف بطريق الخطأ :- فقد يعتقد المتهم بانه ارتكب الجريمة فيعترف بها ، رغم ان غيره ارتكبها ، كالسائق الذي يدهس في الظلام انسان ويجده تحت سيارته ، ولكن يثبت لاحقا بان المدهوس كان قد توفي بالسم قبل دهسه والقيت الجثة بالطريق العام .
الاعتراف بناء على خديعة :- كأن يعترف المتهم بانه قتل المجنى علبه حينما استيقظ فوجد نفسه قرب جثته وبيده مسدس ، رغم انه لا يذكر سوى تعاطيه المسكر مع اخرين .وكان ذلك قد رتبه رفقته في تناول المسكرات او الخمر ، لتحميله وزر الجريمة التي ارتكبوها لسبب ما .
الاعتراف للفخر والمباهاة وحب الظهور :- كمن يعترف بقتل قائد عسكري كبير من قوات الاحتلال تفاخرا بارتكابه الجريمة رغم انه لم يرتكبها ، او يعترف كذبا بانه قتل رجل دين يعتقد بفساد عقيدته او كفره تفاخرا بالجريمة. وتعد بعض اشكال الاعتراف بجرائم الثأر من هذا النوع ، اذ يفخر المتهم احيانا بانه ثأر لمقتل ابيه او اخيه وقد لا يكون هو من ارتكب جريمة القتل .
الاعتراف بجريمة لاخفاء حقيقة ما :- كالعاشق الذي يعترف باالشروع بالسرقة حينما ضبط في دار عشيقته ، حفاظا على سر علاقتهما ولكي لا يسئ الى سمعتها وشرفها .
الاعتراف فرارا من جريمة اكبر :- كأن يعترف بانه كان يواعد زوجة المشتكي ، او ابنته ، او انه يحاول التحرش باحدهما ، حينما ضبط في داره ، في حين انه كان ينوي او يحاول سرقته .
انهيار المتهم لمواجهته بالادلة ضده :- قد تتوفر في الدعوى ادلة مقنعة وقوية ضد المتهم ، وحينما يواجهه المحقق بها ينهار فيعترف بارتكاب الجريمة .
استدراج المتهم :- قد يعترف المتهم بارتكاب الجريمة حينما يستدرجه المحقق باظهار التعاطف مع جريمته ، وتعظيم فعل من قام بها ، او اظهار تعاطفه مع الجريمة ومرتكبها من خلال الطعن بالمجنى عليها وكونه مستحقا لها لانه سئ السلوك او تصرفاته لا اخلاقية ([1]) .
الاعتراف اعمالا للمنطق :- وذلك حينما تقوم ظروف تظهر المتهم وكأنه الفاعل للجريمة قطعا ، رغم انه لم يفعلها ، وانما وجد صدفة في مسرح الجريمة بمظهر يقطع بانه هو من ارتكبها ، فيكون في موقف لا يسعه انكار الجريمة مطلقا فيعترف اعمالا للمنطق ولانه يائس من تصديق الناس له اذا انكر .اذ يروي ابن قيم الجوزية بان الناس دخلت خربة فوجدت رجلا يتشط بدمه ويقف بجانبه رجل يحمل سكينا ملطخة بالدماء في زمن الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ، فأعترف بانه من قتل الرجل ، فأمر الامام بقتله قصاصا ، وقبل تنفيذ القصاص حضر رجل اخر معترفا بالجريمة ، فقال المعترف :- ( ياأمير المؤمنين وما استطيع ان اصنع ، وقفت العسس على الرجل يتشط بدمه وانا واقف وفي يدي سكين وفيها اثر الدم وقد اخذت في خربة ، فخفت الا يقبل مني فأعترفت بما لم اصنع واحتسبت نفسي عند الله ) ، فقال الامام ( ع ) :- ( بئسما فعلت ) . وطلب منه الامام بيان الحادث فأجابه بأنه رجل قصاب خرج الى الحانوت في الفجر وذبح بقرة وسلخها وبينما السكين في يده اخذه البول فذهب الى خربة فقضى حاجته ولكنه شاهد الشخص يتشحط بدمه في طريقه للخروج من الخربة ، فدخل في هذه الاثناء العسس ( الشرطة ) ووجدوه بجانب القتيل والسكين بيده.
الاعتراف بأمل معاملة افضل :- كالذي يعترف بالجريمة لان القانون يخفف عنه العقوبة او يعفيه منها اذا ما اعترف بها من تلقاء نفسه او قبل اتصال علم الجهات التحقيقية بها.
اعتراف المتهم المخدوع :- فيعترف المتهم وتأخذ اقواله بذلك بعد ان يخدعه المحقق او الضابط بانه حوله الى شاهد على شركائه الاخرين ، وحينما تؤخذ اعترافاته بدون تحليفه يمين الشاهد يكتشف انه خدع وانه اعترف على نفسه وان ما قاله سيعد دليلا ضده قد يوصله الى حبل المنشقة . وهذا النوع من الاعترافات يعد اعترافا معيبا لانه اخذ بالخديعة الصادرة من الجهة التحقيقية التي يتوجب بها قانونا تنوير المتهم وافهامه بان كل ما يقوله ستتخذ دليلا ضده ، وليس خداعه بافهامه بان اقواله لا تعد دليلا ضده وانها ستخلصه من وزر الجريمة .
الاعترافات المزورة :- وهي اعترافات تنسبها الجهات التحقيقية الى المتهم دون ان تصدر منه ، اذ تلجأ احيانا الجهات التحقيقية الفاسدة - لاسباب مختلفة - الى تدوين اعترافات منسوبة للمتهم واجباره على التوقيع عليها رغما عنه او دون اطلاعه على ما كتب فيها .
الاعتراف استجابة لتهديدات او ضغوط غير رسمية :- كأن يعترف المتهم بالجريمة التي لم يرتكبها لان اهل المجنى عليه يهددونه بقتل ولده او الاعتداء على ابنته اذا لم يعترف بها .
الاعتراف خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت :- كأن يعترف المتهم بالجريمة المنسوبة اليه لان القاضي اخبره بانه سيحيله الى مكتب مكافحة الاجرام في المحافظة المشهور عنه القسوة مع المتهمين لانتزاع اعترافاتهم ([2]).
الاعتراف استجابة الى ضغوط يمارسها الضباط او المحققون :- اذ قد يلجأ الضباط او المحققون الى تعذيب المتهمين او ترهيبهم او الضغط على اراداتهم بطرق اخرى كالوعد والوعيد والاغواء او الاغراء ، او التهديد بالاعتداء الجنسي على المتهم او المتهمة نفسها ، او احد الاشخاص وثيقي الصلة بها او به كزوجته او ابنته او امه او حبيبته ، فيضطر المتهم الى الاعتراف بجريمة لم يرتكبها تخلصا من تلك الضغوط .
المطلب الثاني
مدى مطابقة الاعتراف للواقع
يمكن تصنيف دوافع الاعتراف المذكورة فيما سبق - من جهة النظر الى انتاجها اعتراف صحيح من حيث مطابقته للواقع او كاذب - الى ثلاثة اصناف :-
الصنف الاول :- دوافع تؤدي الى اعترافات صحيحة ، هي :- 1- صحوة الضمير . 2- ايمان المتهم بسلامة ارتكاب الجريمة . 3- الاعتراف لبساطة الجريمة .4- استدراج المتهم .
الصنف الثاني :- دوافع تؤدي الى اعترافات كاذبة :- هي :- 1- الاعتراف لحماية وثيقي الصلة . 2- الاعتراف لقاء منفعة . 3- الاعتراف انتقاما او نكاية باخرين .4- التباهي بالجريمة . 5- الاعتراف بطريق الخطأ .6- الاعتراف لاخفاء حقيقية ما . 7- الاعتراف بجريمة فرارا من جريمة اكبر .8- الاعتراف بناء على خديعة .9- الاعترافات المزورة . 10- الاعتراف اعمالا للمنطق .11- الاعتراف لخلط الحقائق . 12- اعتراف اليائس .
الصنف الثالث :- دوافع تؤدي الى اعترافات مشكوك فيها :- هي 1- الاعتراف نتيجة انهيار المتهم . 2- الاعتراف نتيجة الاكراه غير الرسمي . 3- الاعتراف نتيجة اكراه او ضغوطات الجهات التحقيقية .4- الاعتراف خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت . 5- الاعتراف بأمل معاملة افضل .6- اعتراف المخدوع .
والحقيقة ان اكثر اصناف الدوافع وقوعا في الحياة العملية هي الدوافع التي تنتج عنها اعترافات مشكوك بها وهي ستة فقط ، ومع ذلك فان الاعتراف نتيجة الدوافع غير الاعتراف بسبب الضغط والاكراه واعتراف المتهم المخدوع والاعتراف خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت ، وهي انهيار المتهم والاعتراف بأمل معاملة افضل والاعتراف نتيجة الضغط غير الرسمي نادرة الوقوع ، اذ يتمكن المتهمون عادة من مواجهة الضغط غير الرسمي والصمود ضده ، وغالبا ما تعجز الجهات التحقيقية التقليدية او المعاصرة المتخلفة من توفير ادلة تواجه بها المتهم فينهار ويقر بالجريمة ، او يسعى لطلب معاملة افضل ، لذلك فأن الاعتراف نتيجة هذه الدوافع الثلاث نادرة الحدوث في الحياة العملية خصوصا في العراق مع اجهزة تحقيقية تقليدية متخلفة عاجزة عن مسايرة التقدم والتطور .
الا ان الاعتراف بسبب ضغوط واكراه الجهات التحقيقية واعتراف المتهم المخدوع واعتراف المتهم خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت هو الاكثر وقوعا في الحياة العملية ، قياسا الى حالات الاعتراف بسبب جميع دوافع الاعتراف الاخرى ، اذ ينسب اكثر من 95% من حالات الاعتراف الى هذه الدوافع الثلاث .
وكانت تلك النسبة العالية من الاعترافات المنتزعة بالضغط والاكراه هو السبب الرئيس في جعل الاعتراف اخطر الادلة ، لانها اعترافات مشكوك في صحتها وفي مدى مطابقتها للواقع ، الا انها تعد لدى المحاكم في الانظمة القانونية التقليدية ادلة قاطعة الدلالة في اثبات التهمة ضد المعترف ولو لم يعززه دليل اخر في احيان كثيرة .
وعموما فأن الاعتراف بالضغط والاكراه لا يخرج عن احتمالين :-
الاحتمال الاول :- ان يعترف المتهم بجريمة ارتكبها فعلا . وهذا صنفين - من جهة النظر الى اصرار المتهم عليه او تراجعه عنه - فقد يصر المتهم الى النهاية على اعترافه بالجريمة ، ولا يدعي بان اعترافه غير صحيح ، وقد يرجع المتهم عن اعترافه ويدعي بانه انتزع منه بالاكراه والضغط .
الاحتمال الثاني :- ان يعترف المتهم بجريمة لم يرتكبها نهائيا ، وينقسم هذا الصنف من الاعتراف الى نوعين من جهة النظر الى مدى تطابقه مع الجريمة ، هما :- 1- اعتراف مطابق لظروف الجريمة . 2- واعتراف غير مطابق لظروف الجريمة او لا يتفق مع ظروف المتهم المعترف نفسه كأن يعترف بالزنا ويظهر بأنه مجبوب .
اذ يفترض عقلا ان لا يتطابق ( اعتراف المتهم بجريمة لم يرتكبها ) مع ظروفها وتفاصيلها ، وهذا هو المدخل الذي ينقذ المتهمين ممن يعترفون بجرائم لم يرتكبوها .
الا ان اعتراف المتهم بجريمة لم يرتكبها قد يتطابق مع ظروفها وملابساتها اما :-
لان المتهم المعترف يعرف تلك الوقائع ، فقد يكون ساكنا في المنطقة التي وقعت فيها وتعرف على تفاصيلها مما تناقله الناس ، او لانه اقارب احد اطرافها ، او لان المجرم الحقيقي حدثه عن كيفية وقوعها ، او لان شخص ما يعرف تفاصيلها حدثه عنها .
وقد تتطابق اعترافات المتهم مع وقائع الجريمة الحقيقية لان المحقق او الضابط يوحي اليه بها اثناء تثبيت اقواله ، او يتعمد تدوينها على لسانه بطريقة تتوافق معها .
وقد تتطابق الاعترافات المنسوبة الى المتهم مع الجريمة لان المحقق وقعه عليها بعد ان دونها بالطريقة التي يريدها دون ان يصدر الاعتراف من المتهم .
المطلب الثالث
الاعترافات المنتزعة بالضغط اوالاكراه
والحقيقة ان معظم الاعترافات التي تصدر عن المتهمين تكون بسبب الضغوط التي تمارس عليهم سواء كانت ضغوطا جسدية كالتعذيب سواء اكان من النوع الذي يترك اثرا على جسد الضحية او من النوع الذي لا يترك اثرا على جسده ، وسواء وقع بالضرب او الكي بالنار او التيار الكهربائي او جنسية كاغتصاب المتهم ، او ضغوط نفسية كالمنع من النوم والحبس الانفرادي الطويل ، او بالتهديد او الوعيد او الاغراء او الاغواء او ممارسة ضغوطا على اشخاص وثيقي الصلة بالمتهم كاغتصاب ابنته او زوجته امامه او كشف عوراتها او تعذيبها.
فالضغط لانتزاع الاعترافات من المتهمين يقع بصور واشكاال ووسائل كثيرة ، تصنف الى قسمين بالنظر الى كونها تترك اثرا على جسد الضحية من عدمه :-
الصنف الاول :- وسائل ضغط واكراه تترك اثرا ماديا :- منها :-
الضرب سواء وقع بالايدي او بوسائل وادوات واشياء مختلفة كالاحذية او العصي او الانابيب البلاستيكية او المعدنية ، وغيرها ، وهو قد يقع على مناطق مختلفة من الجسم ، وبعضه يترك اثرا على الجلد واللحم الخارجي فقط ، وبعضها قد يترك اثاره على العظم خصوصا الاضلاع وفي الساقين واليدين ،وقد يصل تأثيرها بالحاق ضرر بالاجزاء الداخلية كالكبد والكليتين والرئتين والخصيتين والمثانة وغيرها .
الكي بالنار ، كلسع ذكر الرجل بعقب السيكارة .
الصعق بالتيار الكهربائي .
الاغتصاب او اللواط .
ادخال الات واشياء في القبل او الدبر ، كالقناني والعصي .
ربط احاليل الرجال لمنعه من التبول لحين اعترافه .
التعليق من الكتفين لمدد طويلة .
التعليق من القدمين لمدد طويلة .
وضع الاثقال على جسد الضحية لمدد طويلة .
القاء الاثقال على جسد الضحية من مكان عال . كرمي اسطوانة الغاز من السطح على الضحية المدد مربوطا اسفله .
استعمال مواد حارقة للفم او العين او الجسد عموما .
استعمال الات وادوات الثقب على جسد الضحية .
الصنف الثاني :- وسائل ضغط واكراه لا تترك اثرا ماديا :-
ابقاء الضحية واقفا لمدد طويلة .
منع الضحية من النوم .
تسليط ضوء قوي تنبعث منه حرارة عالية على جسد الضحية، خصوصا على الوجه .
اخضاعه لسماع اصوات عالية او مدوية .
تعطيش الضحية بشدة .
حرمان من الطعام الا بحدود البقاء حيا .
حرمانه من ادويته الضرورية .
الايهام بالاغراق بالماء .
تنقيط ماء على راسه لمدد طويلة .
اخافته بالحيونات كالكلاب المسعورة ، او العقارب منزوعة الابر او الافاعي منزوعة الاسنان .
التهديد بالقاء القبض على عائلته او ادخالهم كمتمهين في القضية كأبنته او زوجته .
احضار احد افراد عائلته وتهديده بايذاءه او تعذيبه او اغتصابه امام المتهم ، او تعرية الاناث من اقاربه.
اطالة امد الاستجوابات لفترات متصلة ليلا ونهارا لتحطيم اعصابه وتضييق الخناق عليه .
وعده بالعفو عنه او وعده بجعله شاهدا في القضية ، كذبا ، خلافا لاحكام القانون .
والحقيقة ان اساليب الاكراه والتعذيب التي لا تترك اثرا هي اخطر من اساليب الضغط والاكراه التي تترك اثرا ماديا لاسباب كثيرة اهمها :-
لصعوبة اثباتها ، لانها لا تترك اثار مادية على جسد الضحية ، ولانها تجري في غرف مغلقة بعيدة عن عيون الشهود والمخبرين ، فلا يتوفر بشأنها اي دليل معتبر ،غير افادة الضحية نفسه ، وهي لا تكفي لاثباتها من وجه نظر قانونية .
ولانها قد تستمر لمدد طويلة جدا لحين انتزاع اعتراف من المتهم ، فهي اكثر اذى على الضحايا .
وهي لصعوبة اثباتها تغري المحققين والضباط على التمادي في استعمالها دائما ، خصوصا في الجرائم التي تشكل ضغطا ما عليهم .
ويختلف مقدار الضغط والاكراه الكافي لانتزاع الاعتراف من المتهم بحسب طبيعة وتربية وتمرس وثقافة المتهم نفسه ، فقد يعترف متهم لمجرد سبه واهانته بالكلام او بمجرد تهديده بالضرب بالايدي او بالحذاء ، وقد يتخلف اخر عن الاعتراف مهما كان مقدار التعذيب الذي يصب عليه ولو فعلا هو الفاعل للجريمة . الا ان الاعتراف يعد باطلا ويتوجب اطراحه كدليل [3]، مهما كان مقدار الاكراه او الضغط - الذي استعمل لانتزاعه من المتهم - ضئيلا .
ولعل اخطر ما في ( الاعتراف المأخوذ بالضغط ا الاكراه ) هو انه ينسب الجريمة ليس الى مرتكبها ، بل الى من ( وقع عليه الاكراه لانتزاع اعترافه ) ، لذلك يتوجب اطراحه بشكل كامل وعدم الاعتداد به ولو باعتباره قرينة بسيطة ، لانه لا يشكف فاعل الجريمة ، بل يعطيك قناعة مهمومة بان المعترف هو من ارتكب الجريمة ، وقد لا يكون ذلك حقيقيا مطلقا .
لذلك فان الاعتراف لا يعد – من ناحية فعلية ومنطقية - دليلا جزائيا ، لانه – في الحقيقة - اعفاء من الدليل ، شأنه شأن الاقرار في القضايا المدنية فهو اعفاء من تقديم الدليل وليس بدليل ، فتوفير الادلة ضد شخص ما بتهمة ارتكاب جريمة معينة يقع على عاتق الجهات التحقيقية ، في حين يعفي اعتراف المتهم تلك الجهات من مسؤوليتها في تقديم الادلة . لذلك تسعى تلك الجهات حينما تعجز عن اداء واجباتها في توفير الادلة الى الضغط على شخص ما لانتزاع الاعتراف منه لتعفي نفسها من متاعب البحث عن الدليل .
لذلك تجد الجهات التحقيقية العاجزة - بسبب التخلف في قدراتها وادواتها - تلجأ الى الضغط على المتهمين طلبا للاعتراف ، لانها لا تملك اية وسائل ناجعة لتوفير الادلة ، فهي عاجزة عن كشف اية جريمة او الوصول الى مرتكبيها الا بانتزاع الاعترافات بالاكراه والضغط .
ويعد الاعتراف المأخوذ بالضغط والاكراه - ولو اظهر الحقيقية - اعترافا باطلا – من وجهة نظر قانونية - لا يصح الاستناد اليه في ادانة المتهم ، مهما كان مقدار قناعة المحكمة به ، فيتوجب اطراحه كدليل في الدعوى ، ووزن باقي الادلة المتوفرة بمفردها والنظر في مدى كفايتها ، وكأن الاعتراف غير موجود اصلا ، بغض النظر عن مدى صحة الاعتراف ، اذ يتوجب اطراحه وعدم الاعتداد به ولو كان صحيحا ([4])، وبغض النظر عن مقدار الضغط او الاكراه او التهديد الذي استعمال لانتزاعه سواء اكان كبيرا ام صغيرا ([5]) ، فيعد الاعتراف باطلا اذا ما اخذ من المتهم تحت القسم اذ يعد تحليف المتهم اليمين احد طرق الاكراه على الاعتراف .
اما الدوافع الاخرى للاعتراف - كصحوة الضمير وحماية الغير والتباهي وغيرها مما سقناه انفا - فانها – عموما - قليلة الوقوع في الحياة العملية ، اذ نادرا ما يعترف المتهم لصحوة ضميره ، او لاستدراجه من المحقق او لمواجهته بالادلة ، او يعترف للتباهي او يعترف بطريق الخطأ ، الا ان بعض تلك الدوافع يقع بها الاعتراف بسببها اكثر من غيرها في العراق ، اذ يقع احيانا ان يعتراف المتهم لحماية شخص وثيقة الصلة به ، او لايمانه بسلامة عمله حينما ارتكب الجريمة خصوصا في جرائم الشرف ، ويعترف مرتكبو بعض جرائم الخطأ ، كما يعترف بعض مرتكبي الجرائم البسيطة لتفاهتها او بساطة العقوبة عنها .
المطلب الرابع
دوافع الجهات التحقيقية لانتزاع الاعترافات
ويندفع المحققون والضباط الى انتزاع اعترافات من المتهمين - بالضغط عليهم ولو بالتعذيب الشديد لاسباب - مختلفة ، منها :-
ابراز مهاراتهم في انتزاع الاعتراف وكشف الجريمة .
المنافسة وتسابق الاجهزة الامنية المختلفة للفوز بكشف فاعلي الجريمة قبل غيرهم .
للتخلص من ضغوط روؤسائهم الذين يريدون كشف المجرم باي طريقة كانت ، ولو لم تكن هناك منافسة بين الاجهزة الامنية المختلفة .
للتخلص من ضغوط الرأي العام اذا كانت القضية محل اهتمامه ومتابعته .
وقد يقف خلف الضغط لانتزاع الاعترفات اسباب طائفية او عرقية او سياسية ، كحرص المحقق على انتزاع الاعتراف باي وسيلة من المتهم لانه من دين اخر او طائفة اخرى او قومية مختلفة .او لانه ذو توجه سياسي معارض .
من اجل تصفية الخصوم والمنافسين ، تنفيذا لاجندات ذاتية للضابط او المحقق نفسه ، او تنفيذات لاجندات شخصية لجهات نافذة او شخصيات مؤثرة .
تواطئ المحقق او الضابط مع المشتكي او خصم المتهم او شخص يريد الحاق الاذى به ( [6])، لقاء مال ، او منفعة اخرى من اي نوع كالجنس او الهدايا .
علاقات المحققين والضباط باطراف الدعوى ، سواء اكانت عداوة او صداقة محبة اوكره ، كأن يكون المحقق او الضابط قريب المجنى عليه او صديقه ، او له معرفة باحد الاشخاص وثيقي الصلة به ، وقد يضغط المحققين والضباط لانتزاع الاعترافات لوجود عداوة مع المتهم او موقف غير ودي .
الانتقام :- حينما يسعى المحقق او الضابط لالحاق الاذى بشخص ما انتقاما منه ، كأن يكون قد اخر معاملته او منع امرارها ، او خطف منه فتاة يحبها ، او ازاحه عن منصب يريده ، وهذا الدافع يختلف عن دافع نوع العلاقة باطراف الدعوى لانه لا يقوم على المشاعر العامة ، بل يقوم على موقف معين فقط .
المطلب الخامس
اسباب اعتبار الاعتراف اخطر الادلة
من كل ما عرضناه انفا ، نلخص الى ان ( الاعتراف اخطر الادلة ) للاسباب الاتية :-
ان خلف الاعتراف دوافع - غالبا - ما تؤدي الى اعترافات كاذبة ، او دوافع تؤدي الى اعترافات مشكوك في صحتها ، اذ احصينا (19) دافعا للاعتراف منها عشرة تؤدي الى اعترافات كاذبة قطعا ، وخمسة فقط تؤدي الى اعترافات مشكوك في صحتها . اما الدوافع التي تؤدي الى اعترافات صحيحة فأنها اربعة فقط وهي نادرة الوقوع في الحياة العملية ، وبعضها ينحصر في جرائم بعينها كجرائم الشرف او في الجرائم البسيطة كجرائم الخطأ .فأذا ما اخذنا بالاعتراف كدليل قاطع فأن عدد كبير من الابرياء سيذهبون ضحايا للعدالة نتيجة ذلك .
ان اكثر من ( 95% ) من حالات الاعتراف تكون نتيجة الضغط والاكراه من الجهات التحقيقية لاسباب ودوافع مختلفة . وهي - نظريا - تعد باطلة من وجهة نظر قانونية لانها انتزعت فعليا بالضغط ، ولكنها عمليا يؤخذ بها ويحكم الاشخاص على اساسها ، دون ان يتمكن المتهم من اثبات انتزاعه منه بالضغط لصعوبة ذلك ، من جهة ، و لعدم اكتراث المحاكم ببحث ادعائه بانتزاع الاعتراف منه بالضغط ، من جهة اخرى .
ان الاعتراف لايعد دليلا ، اذ انه اعفاء من تقديم الدليل ، وليس بدليل .فيتوجب تقييمه في ضوء هذه النظرة ، باعطاءه منزلة تقل عن الدليل ، من خلال تقييمه بالنظر اليه بعين الشك والريبة ، بخلاف النظرة الى الادلة المادية باعتبارها ادلة لا يتسرب اليها الشك . في حين ان الواقع الفعلي يشير الى ان الاعتراف هو عمود الادلة في ادانة المتهمين في الانظمة التحقيقية التقليدية التي تعجز عن اثبات الجريمة ونسبتها الى مرتكبها الا بانتزاع اعتراف منه ، اذ لا تجد متهما يحكم بادانته بجريمة بلا اعتراف الا نادرا ، فمن لا يعترف يفلت من العقاب غالبا ، ولا تجد متهما معترفا يتمكن من الافلات الا نادرا ، ولو كان اعترافه اخذ منه بالضغط على ارادته ولو بالتعذيب الشديد .
ان الاعتراف يربط المتهم بالجريمة ، ولا يربط الجريمة بالمتهم ، لانه ينسب الجريمة الى ( من وقع عليه الاكراه لانتزاع اعترافه ) وليس الى ( مرتكب الجريمة الحقيقي ) ، اي انه يسير باتجاه واحد فقط ، تبدأ من المتهم الى الجريمة ، ولكنه يعجز غالبا عن ربط الجريمة بالمتهم ، اي انه بخلاف الادلة المادية التي تربط الجريمة بالمتهم وتربط المتهم بالجريمة معا مرة واحدة ، بادلة لا تقبل الشك ، لانها تبدأ من الجريمة وتذهب الى مرتكبها ، لذلك فهي ادلة لا تكذب ابدا ، بخلاف الاعتراف الذي ترتفع احتمالات كذبه بنسبة عالية جدا ، فهو يربط بين الجريمة والمتهم باتجاه واحد ، يبدأ من المتهم ، بوسيلة معنوية ظنية ، يرجح احتمال عدم صحتها بقوة ، ولا يوجد ما يقطع بصدقها قطعا جازما لا لبس فيه .
ان تساهل القضاء في الاخذ بالاعتراف على علاته خصوصا الاعتراف المنتزع بالاكراه والتعذيب يشجع الجهات التحقيقية على انتزاعه باي وسيلة، والتمادي في انتهاكات حقوق الانسان .
ان تساهل القضاء في تصحيح الاعترافات ولو كانت باطلة وعدم ملاحقة من ينتزعها بالضغط والاكراه بجدية شجع على التمادي في الضغط لاخذ الاعترافات .
صعوبة اثبات وقوع الضغط والاكراه على المتهمين المعترفين ساعد على انتشاره والتوسع في طلبه ولو على حساب الحق والانصاف وحقوق الانسان .
ان سهولة الحصول عليه وعدم تطلبه اي جهد او مهارة حقيقية ، وقلة نفقاته قياسا بغيره من الادلة ، يغري المحققين والضباط على التمادي بطلبه ، فهو لا يكلفهم جهدا لا عضلي ولا علمي ولا ذهني كبير ، بل هو ايسر الادلة في الوصول اليه ببعض الضغط على المتهم ، وهو لا يتطلب اي نفقات تذكر بخلاف الادلة الاخرى التي تتطلب جهدا ومتابعة ونفقات ومقدرة علمية وذهبية .
ذلك كله مدعاة الى الاخذ بنظرة قانونية تتبنى الشك بالاعتراف كدليل ، خاصة في حالات رجوع المتهم على عنه ، اذ يتوجب ان يكون الاصل عدم صحة الوقائع التي ذكرها المتهم المعترف اذا رجع في اعترافه ، والاستثناء هو الاخذ باعتراف المتهم اذا رجع عنه ، ويجب حصر هذا الاستثناء في اضيق نطاق ، وهذا ما اخذ به الفقهاء المسلمون ، اذ فرقوا بين حالات ثلاث في الرجوع عن الاعتراف [7]:-
الحالة الاولى :- اذا اعترف المتهم بحق خالص للعبد ، فلا عبرة بالرجوع عن الاعتراف ، لانه الاقرار ينشأ حقا للغير .
الحالة الثانية :- اذا تعلق الاعتراف بحق خالص لله كالاعتراف بشرب الخمر او الاستنماء او ما يعرف بجرائم الحق العام حاليا ، فان الرجوع بالاعتراف يؤخذ به مطلقا ، فيبطل الاعتراف ، فلا قيمة له اذا رجع المتهم عنه ، سواء اكان الرجوع صراحة او ضمنا .
الحالة الثالثة :- اذا تعلق الاعتراف بحق لله وللعبد ، فأن حق الله يسقط ، مثل ان يعترف المتهم بسرقة مال شخص ما ، ثم يرجع في اعترافه ، فلا يقام عليه حد السرقة ، ما لم تثبت عليه الجريمة بطريق اخر غير الاعتراف ، الا ان حق العبد في استعادة ماله او التعويض عنه يثبت ضد المعترف ولا يسقطه رجوعه في الاعتراف ([8]).
فندعو الى الاخذ بهذه المبادئ في رجوع المتهم عن الاعتراف لانها عادلة ومنصفة ولا يمكن ان يذهب نتيجة تطبيقها ابرياء الى السجون او يحكم عليهم بالاعدام ، كما ندعو الى الزام المحاكم في حالة اخذها بالاعتراف ان تتحرى عن الدافع الحقيقي للمتهم في اعترافه ، ثم تبن عليه صدق او كذب اعترافه قبل الحكم عليه ، اذ ان الدافع على الاعتراف ركن من اركان كشف حقيقته .
لعل الاخذ بهذا الموقف سيكون حافزا قويا لانظمتنا التحقيقية الى تطوير ادواتها وكوادرها لكشف الجريمة ومرتكبيها بطرق علمية متطورة ، ويجنبها ارتكاب الانتهاكات على السجناء والموقوفين طلبا للاعتراف .
المصادر
القاضي علي عباس اليوسف – الاعتراف المعيب – دراسة مقارنة – رسالة قدمت الى المعهد القضائي العراقي عام 1990 كجزء من متطلبات الدرسات القانونية المتخصصة العليا – القسم الجزائي .
[1] - اظهر المحقق للمتهم بانه يعتقد بان المجنى عليه ( خال المتهم ) يستحق القتل لانه ترك زوجته الجميلة الصغيرة في العمر ليمارس اللواط مع الاطفال ، فاجاب المتهم بانه قتله لهذا السبب .
[2] - حدثني احد قضاة التحقيق بانه بعد ان دون اقوال المتهم بالانكار ، ولان الجريمة غامضة ومعقدة ، فأنه اخبره ( اي اخبر المتهم ) بانه سيحيل القضية الى مكتب مكافحة الاجرام في المحافظة ، فأجابه المتهم بانه مستعد للاعتراف بالجريمة على ان لايحيله الى ذلك المكتب .
[3] - يعد الاقرار او الاعتراف - عند الفقهاء المسلمين - تحت تأثير الاكراه باطلا ولو قامت الدلائل على صحته كأن يرشد السارق عن المسروقات او القاتل على الجثة ، ولم يخالف بذلك الا بعض المالكية ممن ذهبوا الى االقول بصحة اقرار المكره .انظر في تفصيل ذلك :- القاضي علي عباس اليوسف – الاعتراف المعيب – ص13 .
[4] - ان من اصعب الفروض التطبيقية هوالاخذ بقاعدة عدم الاعتداد بالاعتراف واطراحه بالكامل ولو جاء بوقائع صحيحة ، اذ يصعب العمل بها وتطبيقها على ارض الواقع ، فلو اعترف المتهم بالاكراه والتعذيب بانه قتل المجنى عليه ببندقية دفنها في ارض زراعية ، وقام بالدلالة على مكان دفن البدقية التي اظهر التقرير الفني بانه هي البندقية التي اطلقت منها الاطلاقات التي وجدت بجانب جثة المجنى عليه ، فهل يسهل اطراح مثل هذا الاعتراف الذي تقطع بصحته الادلة المادية التي اخرجها المتهم المعترف بالاكراه؟ ان التطبيق السليم لحكم القانون والقواعد القانونية الصحيحة التي تراعي حقوق الانسان تتطلب ذلك فعلا ولابد من اهمال ذلك الاعتراف بالكامل ، فلا مناص من ترك الاخذ بالاعتراف المأخوذ بالاكراه وعدم الاعتداد به بشكل مطلق ولو كان صادقا ومطابق للحقيقية ، واالا فأن ذلك انتهاك خطير لحقوق المتهم وخرق كبير في العدالة .
[5] - قضت محكمة النقض المصرية بالعدد 5925 في 2 / 5 / 1985 :- ( الاصل في الاعتراف الذي يعول عليه ان يكون اختياريا وهو لا يعتبر كذلك – ولو كان صادقا – اذا صدر اثر ضغط او اكراه كائنا ما كان قدره ، وكان من المقرر ان الدفع ببطلان الاعتراف لصدوره تحت تأثير الاكراه دفع جوهري يجب على محكمة الموضوع مناقشته والرد عليه ما دام الحكم قد عول في قضائه بالادانة على هذا الاعتراف ) ، وقضت بالعدد 3725 في 4 / 10 / 1988 :- ( من المقرر ان الاعتراف الذي يعول عليه يجب ان يكون اختياريا وهو لا يعتبر كذلك – ولو كان صادقا – اذا صدر اثر اكراه او تهديد كائنا ما كان قدر هذا التهديد او ذلك الاكراه ) . نقلا عن الموقع الرسمي للجنة الشريعة الاسلامية بدمياط – قانوني دوت كوم _ www.qanony.com .
[6] - احضر الضابط متهما - معترفا بمحاولة خطف ابن خاله - الى القاضي الخفر ليلا لتدوين اقواله بالاعتراف ، فلاحظ القاضي الخفر بأن المتهم لا يقوى على الوقوف على رجليه ، فاصر عليه لقول الحقيقية ، فافحص المتهم بان اعترافه انتزعه منه الضابط بالاكراه لانه متواطئ مع خاله لتوقيفه بحجة شروعه بخطف ابنه للضغط على والدته للتنازل عن حصتها من الارث .
[7] - اشار القرآن الكريم الى الاعتراف في عدة مواضع منها قوله تعالى في سورة التوبة الاية ( 102 ) :- ( واخرون اعترفوا بذنوبهم ) وقوله في سورة المالك الاية ( 11 ) :- ( فاعترفوا بذبهم فسحقا لاصحاب السعير ) وقوله تعالى في سورة البقرة الاية ( 84 ) :- ( ثم اقررتم وانتم تشهدون . ) وقوله في صورة النساء الاية ( 134 ) :- ( يايها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم ) . الا ان تلك الاعترفات كلها بارادة حرة واعية فلا اكراه ولا اجبار .
[8] - القاضي علي عباس طاهر اليوسف – الاعتراف المعيب – دراسة مقارنة – رسالة تقدم بها الى المعهد القضائي العراقي عام 1990 كجزء من متطلبات الدراسات القانونية المتخصصة – القسم الجزائي – ص 40 .
منقووووووول
القاضي: رحيم حسن العكيلي ( العراق )
تبنت الانظمة التحقيقية التقليدية - فيما مضى - قاعدة ( الاعتراف سيد الادلة ) التي كانت تخفي خلفها حقيقة رهيبة ، تتعلق بعجز تلك الاجهزة التحقيقية عن كشف الجريمة ، والوصول الى مرتكبيها ، الامر الذي اضطرها الى الضغط على المتهمين لاخذ اعترافاتهم بالجريمة ، وروجت ( تلك الانظمة العاجزة ) – بقوة - لاقرار وتبني القاعدة المذكورة ، تلك القاعدة المظللة غير المنصفة ، التي لا زالت بعض الانظمة القانونية المعاصرة - التي عجزت عن مسايرة التقدم - ترددها وتعمل بها ، ليس من منطلق الايمان بها ، بل لاخقاء عجزها القاتل عن الكشف عن مرتكبي الجرائم .
فتلك الانظمة المتخلفة ظلت عاجزة تماما عن كشف مرتكبي الجرائم لعدم توفر قدرات ولا اجهزة ولا مختبرات او علماء قادرون على جمع ادلة حقيقية عن الجريمة ، ورغم ان الامر تغير تماما مع التطور العلمي والتقني الذي انعكس على الاجهزة والادوات والوسائل التحقيقية فاصبح من الصعب جدا افلات مجرم من العقاب ، ليس باكراهه على الاعتراف - كما كانت تفعل الانظمة التحقيقية التقليدية- بل بجمع ادلة مادية لا يكذبها شئ ولا تخطأ – غالبا - في تحديد المجرم الحقيقي .
الا ان بعض الانظمة التحقيقية والقضائية المعاصرة عجزت عن مسايرة التقدم فظلت متمسكه بـ :- ( الاعتراف كسيد للادلة ) على الرغم من مساوئه الخطيرة جدا ، وعلى الرغم من ان تبني المحاكم لتلك القاعدة شجع الجهات التحقيقية على استعمال ابشع وسائل الاكراه والتعذيب لانتزاعه ، ما دامت المحاكم تأخذ بالاعتراف المنتزع بالاكراه ، وما دامت لا تلاحق بطريقة جدية من يرتكب تلك الافعال من الضباط والمحققين ، وما دام اثبات تعرض المتهم للتعذيب مسألة شبه مستحيلة خصوصا في حالات استعمال وسائل الاكراه والتعذيب التي لا تترك اثرا ماديا ملموسا .
وسنحاول فيما يلي عرض وجوه الضعف والخطورة في تبني الاعتراف كدليل من وجهة نظر واقعية - خصوصا لدى الانظمة القانونية التي تعجز عن ايقاف ممارسات انتزاع الاعترافات بالتعذيب والاكراه والضغط – في خمس مطالب نخصص الاول لبحث دوافع الاعتراف ، ونتعرض في الثاني لمدى مطابقة الاعترافات للواقع ، ونتناول في الثالث البحث في الاعترافات المنتزعة بالضغط او الاكراه ، اما المطلب الرابع فنخصصه لتحديد دوافع الجهات التحقيقية لانتزاع الاعترافات ، ونتعرض في المطلب الاخير الى اسباب اعتبار الاعتراف اخطر الادلة .
المطلب الاول
دوافع الاعتراف
فما الذي يدفع متهما - قد يلاقي عقوبة الاعدام او السجن لمدة طويلة قد تكلفه حياته كلها - الى الاعتراف ؟ فيما يلي بعض دوافع المتهمين على الاعتراف بالجريمة :-
حماية شخص وثيق الصلة به :- وتحمل عقوبة الجريمة بدلا عنه ، كالاب او الاخ او الام او الزوجة او الاب او الحبيبة ... الخ ، وهو صورة من صور ( الاعتراف افتداءا للغير ) . وهذه اما ان تكون بأندفاع من الشخص من تلقاء نفسه ، او بدفع من اخرين ، ويقع كثيرا – في العراق - ان تدفع العوائل بالاحداث ( الصغار ) للاعتراف بارتكاب جرائم ارتكبها اقاربهم الكبار لتجنب الحكم عليهم ( اي على الكبار ) بالاعدام .
الاعتراف بالجريمة لقاء منفعة مادية :- لتبرئة المجرم الحقيقي وتحمل عواقب الجريمة بدلا عنه ، وهو الصورة الثانية من صور ( الاعتراف افتداءا للغير ) ، اذ وقع في التسعينات من القرن الماضي ان اعترف شرطي على ارتكابه جريمة قتل كانت تشير القرائن المتوفرة فيها الى ارتكابه من احد ابناء المسؤولين في واسط ، وحينما حكم الشرطي بالاعدام انتفض معلنا بان والد المجرم الحقيقي وعده بان لا يحكم بالاعدام وانه يخرجه من السجن لاحقا بعفو خاص ودفع له مبلغ جيد من المال لقاء تحمله الجريمة بدلا عن ولده ، وظهر لاحقا صحة اقواله ، فحكم على ابن المسؤول وافرج عن الشرطي ، ثم تمكن المسؤول من اخراج ابنه بعفو خاص من صدام حسين .
الاعتراف لخلط الحقائق :- اذ سارت بعض المجاميع الارهابية على ان تعترف كل منها بنفس الجريمة ولكن برواية مختلفة وباشخاص مختلفين مما يؤدي الى سقوط جميع الاعترافات والافراج عن المتهمين المعترفين جميعا، ما دامت المحاكم تجد اكثر من مجموعة تعترف بارتكاب نفس الجريمة وبروايات مختلفة ، لصعوبة او استحالة تحديد المجموعة التي ارتكبت الجريمة فعلا من بين المجاميع المسلحة التي اعترفت كل منها على حده بارتكابها .
اعتراف اليائس :- ويقصد به اعتراف مجرم محكوم بالاعدام بحكم بات بجريمة او عدد من الجرائم لم يرتكبها من اجل انقاذ متهمين اخرين لم يحكموا لحد الان عنها ، لانه محكوم بالاعدام ولن يضره شئ اذا حكم مرة او مرات جديدة بالاعدام . وهذه واحدة من الاستراتيجيات التي تبنتها الجماعات المسلحة لتقليل خسائرها وانقاذ بعض اعضائها من الحكم عليهم ، ولا تعد هذه الصورة – لدينا - من صور ( الاعتراف افتداءا للغير ) لان المتهم المعترف هنا لا يفتدي غيره بالتضحية بنفسه على خلاف المعترف لحماية شخص وثيق الصلة او المعترف لقاء منفعة مادية فهذين يضحيان بانفسهما لانقاذ المجرم الحقيقي، اما في صورة المعترف اليائس فأن المعترف – هنا – محكوم بالاعدام فلن يتضرر من اعترافه بجريمة اخرى ما دام انه سيواجه عقوبة واحدة هي الاعدام مرة واحدة .
صحوة الضمير :- وهو الدافع الذي لا يشك في صحة الاعتراف الذي ينتج عنه ، الا انه نادر الوقوع .
ايمان المتهم بسلامة تصرفه حينما ارتكب الجريمة :- كالاخ الذي يسلم نفسه الى مركز الشرطة بعد قتله اخته الباكر غسلا للعار حينما ظهر بانها حامل . وكمن يأخذ بثأره من عدوه .
الاعتراف لبساطة الجريمة :- اذ يعترف مرتكبوا جرائم الخطأ غالبا كمن يدهس شخصا بسيارته ، وكذلك يعترف مرتكبي المخالفات البسيطة كتجاوز الاشارة الضوئية او عدم ربط حزام الامان ، لتفاهة الجريمة والعقوبة ، الا ان تلك الاعترافات الصادرة من المتهمين في هذه الحالات - غالبا - ما يضاف اليها وقائع كاذبة لتبرير افعالهم ، او لالحاق صفة ما بها تخلصا من العقوبة او لتخفيفها ، او على الاقل يعرض المتهم الواقعة بطريقة تخفف من خطأه او تبالغ في خطأ المجنى عليه او تنسب اليه خطأ لم يرتكبه .
الاعتراف انتقاما او نكاية باخرين :- فقد يعترف المتهم بارتكاب جريمة ما من اجل الاضرار باشخاص اخرين حينما يدعي تحريضهم له او اشتراكهم معه فيه ، لاجل الايقاع بهم والحاق الاذى الجسيم من انزال عقوبة جزائية ما بهم كسجنهم ، او تشويه صورتهم وسمعتهم في الاقل . وقد يعترف الابن لالحاق الاذى بوالدته او والده فيعذبهم نكدا وحسرة عليه لعدم استجابتهم لطلباته او لعدم موافقتهم على زواجه من فتاة يريدها او لعدم منحه الاموال التي يطلبها .
الاعتراف بطريق الخطأ :- فقد يعتقد المتهم بانه ارتكب الجريمة فيعترف بها ، رغم ان غيره ارتكبها ، كالسائق الذي يدهس في الظلام انسان ويجده تحت سيارته ، ولكن يثبت لاحقا بان المدهوس كان قد توفي بالسم قبل دهسه والقيت الجثة بالطريق العام .
الاعتراف بناء على خديعة :- كأن يعترف المتهم بانه قتل المجنى علبه حينما استيقظ فوجد نفسه قرب جثته وبيده مسدس ، رغم انه لا يذكر سوى تعاطيه المسكر مع اخرين .وكان ذلك قد رتبه رفقته في تناول المسكرات او الخمر ، لتحميله وزر الجريمة التي ارتكبوها لسبب ما .
الاعتراف للفخر والمباهاة وحب الظهور :- كمن يعترف بقتل قائد عسكري كبير من قوات الاحتلال تفاخرا بارتكابه الجريمة رغم انه لم يرتكبها ، او يعترف كذبا بانه قتل رجل دين يعتقد بفساد عقيدته او كفره تفاخرا بالجريمة. وتعد بعض اشكال الاعتراف بجرائم الثأر من هذا النوع ، اذ يفخر المتهم احيانا بانه ثأر لمقتل ابيه او اخيه وقد لا يكون هو من ارتكب جريمة القتل .
الاعتراف بجريمة لاخفاء حقيقة ما :- كالعاشق الذي يعترف باالشروع بالسرقة حينما ضبط في دار عشيقته ، حفاظا على سر علاقتهما ولكي لا يسئ الى سمعتها وشرفها .
الاعتراف فرارا من جريمة اكبر :- كأن يعترف بانه كان يواعد زوجة المشتكي ، او ابنته ، او انه يحاول التحرش باحدهما ، حينما ضبط في داره ، في حين انه كان ينوي او يحاول سرقته .
انهيار المتهم لمواجهته بالادلة ضده :- قد تتوفر في الدعوى ادلة مقنعة وقوية ضد المتهم ، وحينما يواجهه المحقق بها ينهار فيعترف بارتكاب الجريمة .
استدراج المتهم :- قد يعترف المتهم بارتكاب الجريمة حينما يستدرجه المحقق باظهار التعاطف مع جريمته ، وتعظيم فعل من قام بها ، او اظهار تعاطفه مع الجريمة ومرتكبها من خلال الطعن بالمجنى عليها وكونه مستحقا لها لانه سئ السلوك او تصرفاته لا اخلاقية ([1]) .
الاعتراف اعمالا للمنطق :- وذلك حينما تقوم ظروف تظهر المتهم وكأنه الفاعل للجريمة قطعا ، رغم انه لم يفعلها ، وانما وجد صدفة في مسرح الجريمة بمظهر يقطع بانه هو من ارتكبها ، فيكون في موقف لا يسعه انكار الجريمة مطلقا فيعترف اعمالا للمنطق ولانه يائس من تصديق الناس له اذا انكر .اذ يروي ابن قيم الجوزية بان الناس دخلت خربة فوجدت رجلا يتشط بدمه ويقف بجانبه رجل يحمل سكينا ملطخة بالدماء في زمن الامام علي بن ابي طالب عليه السلام ، فأعترف بانه من قتل الرجل ، فأمر الامام بقتله قصاصا ، وقبل تنفيذ القصاص حضر رجل اخر معترفا بالجريمة ، فقال المعترف :- ( ياأمير المؤمنين وما استطيع ان اصنع ، وقفت العسس على الرجل يتشط بدمه وانا واقف وفي يدي سكين وفيها اثر الدم وقد اخذت في خربة ، فخفت الا يقبل مني فأعترفت بما لم اصنع واحتسبت نفسي عند الله ) ، فقال الامام ( ع ) :- ( بئسما فعلت ) . وطلب منه الامام بيان الحادث فأجابه بأنه رجل قصاب خرج الى الحانوت في الفجر وذبح بقرة وسلخها وبينما السكين في يده اخذه البول فذهب الى خربة فقضى حاجته ولكنه شاهد الشخص يتشحط بدمه في طريقه للخروج من الخربة ، فدخل في هذه الاثناء العسس ( الشرطة ) ووجدوه بجانب القتيل والسكين بيده.
الاعتراف بأمل معاملة افضل :- كالذي يعترف بالجريمة لان القانون يخفف عنه العقوبة او يعفيه منها اذا ما اعترف بها من تلقاء نفسه او قبل اتصال علم الجهات التحقيقية بها.
اعتراف المتهم المخدوع :- فيعترف المتهم وتأخذ اقواله بذلك بعد ان يخدعه المحقق او الضابط بانه حوله الى شاهد على شركائه الاخرين ، وحينما تؤخذ اعترافاته بدون تحليفه يمين الشاهد يكتشف انه خدع وانه اعترف على نفسه وان ما قاله سيعد دليلا ضده قد يوصله الى حبل المنشقة . وهذا النوع من الاعترافات يعد اعترافا معيبا لانه اخذ بالخديعة الصادرة من الجهة التحقيقية التي يتوجب بها قانونا تنوير المتهم وافهامه بان كل ما يقوله ستتخذ دليلا ضده ، وليس خداعه بافهامه بان اقواله لا تعد دليلا ضده وانها ستخلصه من وزر الجريمة .
الاعترافات المزورة :- وهي اعترافات تنسبها الجهات التحقيقية الى المتهم دون ان تصدر منه ، اذ تلجأ احيانا الجهات التحقيقية الفاسدة - لاسباب مختلفة - الى تدوين اعترافات منسوبة للمتهم واجباره على التوقيع عليها رغما عنه او دون اطلاعه على ما كتب فيها .
الاعتراف استجابة لتهديدات او ضغوط غير رسمية :- كأن يعترف المتهم بالجريمة التي لم يرتكبها لان اهل المجنى عليه يهددونه بقتل ولده او الاعتداء على ابنته اذا لم يعترف بها .
الاعتراف خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت :- كأن يعترف المتهم بالجريمة المنسوبة اليه لان القاضي اخبره بانه سيحيله الى مكتب مكافحة الاجرام في المحافظة المشهور عنه القسوة مع المتهمين لانتزاع اعترافاتهم ([2]).
الاعتراف استجابة الى ضغوط يمارسها الضباط او المحققون :- اذ قد يلجأ الضباط او المحققون الى تعذيب المتهمين او ترهيبهم او الضغط على اراداتهم بطرق اخرى كالوعد والوعيد والاغواء او الاغراء ، او التهديد بالاعتداء الجنسي على المتهم او المتهمة نفسها ، او احد الاشخاص وثيقي الصلة بها او به كزوجته او ابنته او امه او حبيبته ، فيضطر المتهم الى الاعتراف بجريمة لم يرتكبها تخلصا من تلك الضغوط .
المطلب الثاني
مدى مطابقة الاعتراف للواقع
يمكن تصنيف دوافع الاعتراف المذكورة فيما سبق - من جهة النظر الى انتاجها اعتراف صحيح من حيث مطابقته للواقع او كاذب - الى ثلاثة اصناف :-
الصنف الاول :- دوافع تؤدي الى اعترافات صحيحة ، هي :- 1- صحوة الضمير . 2- ايمان المتهم بسلامة ارتكاب الجريمة . 3- الاعتراف لبساطة الجريمة .4- استدراج المتهم .
الصنف الثاني :- دوافع تؤدي الى اعترافات كاذبة :- هي :- 1- الاعتراف لحماية وثيقي الصلة . 2- الاعتراف لقاء منفعة . 3- الاعتراف انتقاما او نكاية باخرين .4- التباهي بالجريمة . 5- الاعتراف بطريق الخطأ .6- الاعتراف لاخفاء حقيقية ما . 7- الاعتراف بجريمة فرارا من جريمة اكبر .8- الاعتراف بناء على خديعة .9- الاعترافات المزورة . 10- الاعتراف اعمالا للمنطق .11- الاعتراف لخلط الحقائق . 12- اعتراف اليائس .
الصنف الثالث :- دوافع تؤدي الى اعترافات مشكوك فيها :- هي 1- الاعتراف نتيجة انهيار المتهم . 2- الاعتراف نتيجة الاكراه غير الرسمي . 3- الاعتراف نتيجة اكراه او ضغوطات الجهات التحقيقية .4- الاعتراف خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت . 5- الاعتراف بأمل معاملة افضل .6- اعتراف المخدوع .
والحقيقة ان اكثر اصناف الدوافع وقوعا في الحياة العملية هي الدوافع التي تنتج عنها اعترافات مشكوك بها وهي ستة فقط ، ومع ذلك فان الاعتراف نتيجة الدوافع غير الاعتراف بسبب الضغط والاكراه واعتراف المتهم المخدوع والاعتراف خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت ، وهي انهيار المتهم والاعتراف بأمل معاملة افضل والاعتراف نتيجة الضغط غير الرسمي نادرة الوقوع ، اذ يتمكن المتهمون عادة من مواجهة الضغط غير الرسمي والصمود ضده ، وغالبا ما تعجز الجهات التحقيقية التقليدية او المعاصرة المتخلفة من توفير ادلة تواجه بها المتهم فينهار ويقر بالجريمة ، او يسعى لطلب معاملة افضل ، لذلك فأن الاعتراف نتيجة هذه الدوافع الثلاث نادرة الحدوث في الحياة العملية خصوصا في العراق مع اجهزة تحقيقية تقليدية متخلفة عاجزة عن مسايرة التقدم والتطور .
الا ان الاعتراف بسبب ضغوط واكراه الجهات التحقيقية واعتراف المتهم المخدوع واعتراف المتهم خوفا من الاحالة الى جهة تحقيقية سيئة الصيت هو الاكثر وقوعا في الحياة العملية ، قياسا الى حالات الاعتراف بسبب جميع دوافع الاعتراف الاخرى ، اذ ينسب اكثر من 95% من حالات الاعتراف الى هذه الدوافع الثلاث .
وكانت تلك النسبة العالية من الاعترافات المنتزعة بالضغط والاكراه هو السبب الرئيس في جعل الاعتراف اخطر الادلة ، لانها اعترافات مشكوك في صحتها وفي مدى مطابقتها للواقع ، الا انها تعد لدى المحاكم في الانظمة القانونية التقليدية ادلة قاطعة الدلالة في اثبات التهمة ضد المعترف ولو لم يعززه دليل اخر في احيان كثيرة .
وعموما فأن الاعتراف بالضغط والاكراه لا يخرج عن احتمالين :-
الاحتمال الاول :- ان يعترف المتهم بجريمة ارتكبها فعلا . وهذا صنفين - من جهة النظر الى اصرار المتهم عليه او تراجعه عنه - فقد يصر المتهم الى النهاية على اعترافه بالجريمة ، ولا يدعي بان اعترافه غير صحيح ، وقد يرجع المتهم عن اعترافه ويدعي بانه انتزع منه بالاكراه والضغط .
الاحتمال الثاني :- ان يعترف المتهم بجريمة لم يرتكبها نهائيا ، وينقسم هذا الصنف من الاعتراف الى نوعين من جهة النظر الى مدى تطابقه مع الجريمة ، هما :- 1- اعتراف مطابق لظروف الجريمة . 2- واعتراف غير مطابق لظروف الجريمة او لا يتفق مع ظروف المتهم المعترف نفسه كأن يعترف بالزنا ويظهر بأنه مجبوب .
اذ يفترض عقلا ان لا يتطابق ( اعتراف المتهم بجريمة لم يرتكبها ) مع ظروفها وتفاصيلها ، وهذا هو المدخل الذي ينقذ المتهمين ممن يعترفون بجرائم لم يرتكبوها .
الا ان اعتراف المتهم بجريمة لم يرتكبها قد يتطابق مع ظروفها وملابساتها اما :-
لان المتهم المعترف يعرف تلك الوقائع ، فقد يكون ساكنا في المنطقة التي وقعت فيها وتعرف على تفاصيلها مما تناقله الناس ، او لانه اقارب احد اطرافها ، او لان المجرم الحقيقي حدثه عن كيفية وقوعها ، او لان شخص ما يعرف تفاصيلها حدثه عنها .
وقد تتطابق اعترافات المتهم مع وقائع الجريمة الحقيقية لان المحقق او الضابط يوحي اليه بها اثناء تثبيت اقواله ، او يتعمد تدوينها على لسانه بطريقة تتوافق معها .
وقد تتطابق الاعترافات المنسوبة الى المتهم مع الجريمة لان المحقق وقعه عليها بعد ان دونها بالطريقة التي يريدها دون ان يصدر الاعتراف من المتهم .
المطلب الثالث
الاعترافات المنتزعة بالضغط اوالاكراه
والحقيقة ان معظم الاعترافات التي تصدر عن المتهمين تكون بسبب الضغوط التي تمارس عليهم سواء كانت ضغوطا جسدية كالتعذيب سواء اكان من النوع الذي يترك اثرا على جسد الضحية او من النوع الذي لا يترك اثرا على جسده ، وسواء وقع بالضرب او الكي بالنار او التيار الكهربائي او جنسية كاغتصاب المتهم ، او ضغوط نفسية كالمنع من النوم والحبس الانفرادي الطويل ، او بالتهديد او الوعيد او الاغراء او الاغواء او ممارسة ضغوطا على اشخاص وثيقي الصلة بالمتهم كاغتصاب ابنته او زوجته امامه او كشف عوراتها او تعذيبها.
فالضغط لانتزاع الاعترافات من المتهمين يقع بصور واشكاال ووسائل كثيرة ، تصنف الى قسمين بالنظر الى كونها تترك اثرا على جسد الضحية من عدمه :-
الصنف الاول :- وسائل ضغط واكراه تترك اثرا ماديا :- منها :-
الضرب سواء وقع بالايدي او بوسائل وادوات واشياء مختلفة كالاحذية او العصي او الانابيب البلاستيكية او المعدنية ، وغيرها ، وهو قد يقع على مناطق مختلفة من الجسم ، وبعضه يترك اثرا على الجلد واللحم الخارجي فقط ، وبعضها قد يترك اثاره على العظم خصوصا الاضلاع وفي الساقين واليدين ،وقد يصل تأثيرها بالحاق ضرر بالاجزاء الداخلية كالكبد والكليتين والرئتين والخصيتين والمثانة وغيرها .
الكي بالنار ، كلسع ذكر الرجل بعقب السيكارة .
الصعق بالتيار الكهربائي .
الاغتصاب او اللواط .
ادخال الات واشياء في القبل او الدبر ، كالقناني والعصي .
ربط احاليل الرجال لمنعه من التبول لحين اعترافه .
التعليق من الكتفين لمدد طويلة .
التعليق من القدمين لمدد طويلة .
وضع الاثقال على جسد الضحية لمدد طويلة .
القاء الاثقال على جسد الضحية من مكان عال . كرمي اسطوانة الغاز من السطح على الضحية المدد مربوطا اسفله .
استعمال مواد حارقة للفم او العين او الجسد عموما .
استعمال الات وادوات الثقب على جسد الضحية .
الصنف الثاني :- وسائل ضغط واكراه لا تترك اثرا ماديا :-
ابقاء الضحية واقفا لمدد طويلة .
منع الضحية من النوم .
تسليط ضوء قوي تنبعث منه حرارة عالية على جسد الضحية، خصوصا على الوجه .
اخضاعه لسماع اصوات عالية او مدوية .
تعطيش الضحية بشدة .
حرمان من الطعام الا بحدود البقاء حيا .
حرمانه من ادويته الضرورية .
الايهام بالاغراق بالماء .
تنقيط ماء على راسه لمدد طويلة .
اخافته بالحيونات كالكلاب المسعورة ، او العقارب منزوعة الابر او الافاعي منزوعة الاسنان .
التهديد بالقاء القبض على عائلته او ادخالهم كمتمهين في القضية كأبنته او زوجته .
احضار احد افراد عائلته وتهديده بايذاءه او تعذيبه او اغتصابه امام المتهم ، او تعرية الاناث من اقاربه.
اطالة امد الاستجوابات لفترات متصلة ليلا ونهارا لتحطيم اعصابه وتضييق الخناق عليه .
وعده بالعفو عنه او وعده بجعله شاهدا في القضية ، كذبا ، خلافا لاحكام القانون .
والحقيقة ان اساليب الاكراه والتعذيب التي لا تترك اثرا هي اخطر من اساليب الضغط والاكراه التي تترك اثرا ماديا لاسباب كثيرة اهمها :-
لصعوبة اثباتها ، لانها لا تترك اثار مادية على جسد الضحية ، ولانها تجري في غرف مغلقة بعيدة عن عيون الشهود والمخبرين ، فلا يتوفر بشأنها اي دليل معتبر ،غير افادة الضحية نفسه ، وهي لا تكفي لاثباتها من وجه نظر قانونية .
ولانها قد تستمر لمدد طويلة جدا لحين انتزاع اعتراف من المتهم ، فهي اكثر اذى على الضحايا .
وهي لصعوبة اثباتها تغري المحققين والضباط على التمادي في استعمالها دائما ، خصوصا في الجرائم التي تشكل ضغطا ما عليهم .
ويختلف مقدار الضغط والاكراه الكافي لانتزاع الاعتراف من المتهم بحسب طبيعة وتربية وتمرس وثقافة المتهم نفسه ، فقد يعترف متهم لمجرد سبه واهانته بالكلام او بمجرد تهديده بالضرب بالايدي او بالحذاء ، وقد يتخلف اخر عن الاعتراف مهما كان مقدار التعذيب الذي يصب عليه ولو فعلا هو الفاعل للجريمة . الا ان الاعتراف يعد باطلا ويتوجب اطراحه كدليل [3]، مهما كان مقدار الاكراه او الضغط - الذي استعمل لانتزاعه من المتهم - ضئيلا .
ولعل اخطر ما في ( الاعتراف المأخوذ بالضغط ا الاكراه ) هو انه ينسب الجريمة ليس الى مرتكبها ، بل الى من ( وقع عليه الاكراه لانتزاع اعترافه ) ، لذلك يتوجب اطراحه بشكل كامل وعدم الاعتداد به ولو باعتباره قرينة بسيطة ، لانه لا يشكف فاعل الجريمة ، بل يعطيك قناعة مهمومة بان المعترف هو من ارتكب الجريمة ، وقد لا يكون ذلك حقيقيا مطلقا .
لذلك فان الاعتراف لا يعد – من ناحية فعلية ومنطقية - دليلا جزائيا ، لانه – في الحقيقة - اعفاء من الدليل ، شأنه شأن الاقرار في القضايا المدنية فهو اعفاء من تقديم الدليل وليس بدليل ، فتوفير الادلة ضد شخص ما بتهمة ارتكاب جريمة معينة يقع على عاتق الجهات التحقيقية ، في حين يعفي اعتراف المتهم تلك الجهات من مسؤوليتها في تقديم الادلة . لذلك تسعى تلك الجهات حينما تعجز عن اداء واجباتها في توفير الادلة الى الضغط على شخص ما لانتزاع الاعتراف منه لتعفي نفسها من متاعب البحث عن الدليل .
لذلك تجد الجهات التحقيقية العاجزة - بسبب التخلف في قدراتها وادواتها - تلجأ الى الضغط على المتهمين طلبا للاعتراف ، لانها لا تملك اية وسائل ناجعة لتوفير الادلة ، فهي عاجزة عن كشف اية جريمة او الوصول الى مرتكبيها الا بانتزاع الاعترافات بالاكراه والضغط .
ويعد الاعتراف المأخوذ بالضغط والاكراه - ولو اظهر الحقيقية - اعترافا باطلا – من وجهة نظر قانونية - لا يصح الاستناد اليه في ادانة المتهم ، مهما كان مقدار قناعة المحكمة به ، فيتوجب اطراحه كدليل في الدعوى ، ووزن باقي الادلة المتوفرة بمفردها والنظر في مدى كفايتها ، وكأن الاعتراف غير موجود اصلا ، بغض النظر عن مدى صحة الاعتراف ، اذ يتوجب اطراحه وعدم الاعتداد به ولو كان صحيحا ([4])، وبغض النظر عن مقدار الضغط او الاكراه او التهديد الذي استعمال لانتزاعه سواء اكان كبيرا ام صغيرا ([5]) ، فيعد الاعتراف باطلا اذا ما اخذ من المتهم تحت القسم اذ يعد تحليف المتهم اليمين احد طرق الاكراه على الاعتراف .
اما الدوافع الاخرى للاعتراف - كصحوة الضمير وحماية الغير والتباهي وغيرها مما سقناه انفا - فانها – عموما - قليلة الوقوع في الحياة العملية ، اذ نادرا ما يعترف المتهم لصحوة ضميره ، او لاستدراجه من المحقق او لمواجهته بالادلة ، او يعترف للتباهي او يعترف بطريق الخطأ ، الا ان بعض تلك الدوافع يقع بها الاعتراف بسببها اكثر من غيرها في العراق ، اذ يقع احيانا ان يعتراف المتهم لحماية شخص وثيقة الصلة به ، او لايمانه بسلامة عمله حينما ارتكب الجريمة خصوصا في جرائم الشرف ، ويعترف مرتكبو بعض جرائم الخطأ ، كما يعترف بعض مرتكبي الجرائم البسيطة لتفاهتها او بساطة العقوبة عنها .
المطلب الرابع
دوافع الجهات التحقيقية لانتزاع الاعترافات
ويندفع المحققون والضباط الى انتزاع اعترافات من المتهمين - بالضغط عليهم ولو بالتعذيب الشديد لاسباب - مختلفة ، منها :-
ابراز مهاراتهم في انتزاع الاعتراف وكشف الجريمة .
المنافسة وتسابق الاجهزة الامنية المختلفة للفوز بكشف فاعلي الجريمة قبل غيرهم .
للتخلص من ضغوط روؤسائهم الذين يريدون كشف المجرم باي طريقة كانت ، ولو لم تكن هناك منافسة بين الاجهزة الامنية المختلفة .
للتخلص من ضغوط الرأي العام اذا كانت القضية محل اهتمامه ومتابعته .
وقد يقف خلف الضغط لانتزاع الاعترفات اسباب طائفية او عرقية او سياسية ، كحرص المحقق على انتزاع الاعتراف باي وسيلة من المتهم لانه من دين اخر او طائفة اخرى او قومية مختلفة .او لانه ذو توجه سياسي معارض .
من اجل تصفية الخصوم والمنافسين ، تنفيذا لاجندات ذاتية للضابط او المحقق نفسه ، او تنفيذات لاجندات شخصية لجهات نافذة او شخصيات مؤثرة .
تواطئ المحقق او الضابط مع المشتكي او خصم المتهم او شخص يريد الحاق الاذى به ( [6])، لقاء مال ، او منفعة اخرى من اي نوع كالجنس او الهدايا .
علاقات المحققين والضباط باطراف الدعوى ، سواء اكانت عداوة او صداقة محبة اوكره ، كأن يكون المحقق او الضابط قريب المجنى عليه او صديقه ، او له معرفة باحد الاشخاص وثيقي الصلة به ، وقد يضغط المحققين والضباط لانتزاع الاعترافات لوجود عداوة مع المتهم او موقف غير ودي .
الانتقام :- حينما يسعى المحقق او الضابط لالحاق الاذى بشخص ما انتقاما منه ، كأن يكون قد اخر معاملته او منع امرارها ، او خطف منه فتاة يحبها ، او ازاحه عن منصب يريده ، وهذا الدافع يختلف عن دافع نوع العلاقة باطراف الدعوى لانه لا يقوم على المشاعر العامة ، بل يقوم على موقف معين فقط .
المطلب الخامس
اسباب اعتبار الاعتراف اخطر الادلة
من كل ما عرضناه انفا ، نلخص الى ان ( الاعتراف اخطر الادلة ) للاسباب الاتية :-
ان خلف الاعتراف دوافع - غالبا - ما تؤدي الى اعترافات كاذبة ، او دوافع تؤدي الى اعترافات مشكوك في صحتها ، اذ احصينا (19) دافعا للاعتراف منها عشرة تؤدي الى اعترافات كاذبة قطعا ، وخمسة فقط تؤدي الى اعترافات مشكوك في صحتها . اما الدوافع التي تؤدي الى اعترافات صحيحة فأنها اربعة فقط وهي نادرة الوقوع في الحياة العملية ، وبعضها ينحصر في جرائم بعينها كجرائم الشرف او في الجرائم البسيطة كجرائم الخطأ .فأذا ما اخذنا بالاعتراف كدليل قاطع فأن عدد كبير من الابرياء سيذهبون ضحايا للعدالة نتيجة ذلك .
ان اكثر من ( 95% ) من حالات الاعتراف تكون نتيجة الضغط والاكراه من الجهات التحقيقية لاسباب ودوافع مختلفة . وهي - نظريا - تعد باطلة من وجهة نظر قانونية لانها انتزعت فعليا بالضغط ، ولكنها عمليا يؤخذ بها ويحكم الاشخاص على اساسها ، دون ان يتمكن المتهم من اثبات انتزاعه منه بالضغط لصعوبة ذلك ، من جهة ، و لعدم اكتراث المحاكم ببحث ادعائه بانتزاع الاعتراف منه بالضغط ، من جهة اخرى .
ان الاعتراف لايعد دليلا ، اذ انه اعفاء من تقديم الدليل ، وليس بدليل .فيتوجب تقييمه في ضوء هذه النظرة ، باعطاءه منزلة تقل عن الدليل ، من خلال تقييمه بالنظر اليه بعين الشك والريبة ، بخلاف النظرة الى الادلة المادية باعتبارها ادلة لا يتسرب اليها الشك . في حين ان الواقع الفعلي يشير الى ان الاعتراف هو عمود الادلة في ادانة المتهمين في الانظمة التحقيقية التقليدية التي تعجز عن اثبات الجريمة ونسبتها الى مرتكبها الا بانتزاع اعتراف منه ، اذ لا تجد متهما يحكم بادانته بجريمة بلا اعتراف الا نادرا ، فمن لا يعترف يفلت من العقاب غالبا ، ولا تجد متهما معترفا يتمكن من الافلات الا نادرا ، ولو كان اعترافه اخذ منه بالضغط على ارادته ولو بالتعذيب الشديد .
ان الاعتراف يربط المتهم بالجريمة ، ولا يربط الجريمة بالمتهم ، لانه ينسب الجريمة الى ( من وقع عليه الاكراه لانتزاع اعترافه ) وليس الى ( مرتكب الجريمة الحقيقي ) ، اي انه يسير باتجاه واحد فقط ، تبدأ من المتهم الى الجريمة ، ولكنه يعجز غالبا عن ربط الجريمة بالمتهم ، اي انه بخلاف الادلة المادية التي تربط الجريمة بالمتهم وتربط المتهم بالجريمة معا مرة واحدة ، بادلة لا تقبل الشك ، لانها تبدأ من الجريمة وتذهب الى مرتكبها ، لذلك فهي ادلة لا تكذب ابدا ، بخلاف الاعتراف الذي ترتفع احتمالات كذبه بنسبة عالية جدا ، فهو يربط بين الجريمة والمتهم باتجاه واحد ، يبدأ من المتهم ، بوسيلة معنوية ظنية ، يرجح احتمال عدم صحتها بقوة ، ولا يوجد ما يقطع بصدقها قطعا جازما لا لبس فيه .
ان تساهل القضاء في الاخذ بالاعتراف على علاته خصوصا الاعتراف المنتزع بالاكراه والتعذيب يشجع الجهات التحقيقية على انتزاعه باي وسيلة، والتمادي في انتهاكات حقوق الانسان .
ان تساهل القضاء في تصحيح الاعترافات ولو كانت باطلة وعدم ملاحقة من ينتزعها بالضغط والاكراه بجدية شجع على التمادي في الضغط لاخذ الاعترافات .
صعوبة اثبات وقوع الضغط والاكراه على المتهمين المعترفين ساعد على انتشاره والتوسع في طلبه ولو على حساب الحق والانصاف وحقوق الانسان .
ان سهولة الحصول عليه وعدم تطلبه اي جهد او مهارة حقيقية ، وقلة نفقاته قياسا بغيره من الادلة ، يغري المحققين والضباط على التمادي بطلبه ، فهو لا يكلفهم جهدا لا عضلي ولا علمي ولا ذهني كبير ، بل هو ايسر الادلة في الوصول اليه ببعض الضغط على المتهم ، وهو لا يتطلب اي نفقات تذكر بخلاف الادلة الاخرى التي تتطلب جهدا ومتابعة ونفقات ومقدرة علمية وذهبية .
ذلك كله مدعاة الى الاخذ بنظرة قانونية تتبنى الشك بالاعتراف كدليل ، خاصة في حالات رجوع المتهم على عنه ، اذ يتوجب ان يكون الاصل عدم صحة الوقائع التي ذكرها المتهم المعترف اذا رجع في اعترافه ، والاستثناء هو الاخذ باعتراف المتهم اذا رجع عنه ، ويجب حصر هذا الاستثناء في اضيق نطاق ، وهذا ما اخذ به الفقهاء المسلمون ، اذ فرقوا بين حالات ثلاث في الرجوع عن الاعتراف [7]:-
الحالة الاولى :- اذا اعترف المتهم بحق خالص للعبد ، فلا عبرة بالرجوع عن الاعتراف ، لانه الاقرار ينشأ حقا للغير .
الحالة الثانية :- اذا تعلق الاعتراف بحق خالص لله كالاعتراف بشرب الخمر او الاستنماء او ما يعرف بجرائم الحق العام حاليا ، فان الرجوع بالاعتراف يؤخذ به مطلقا ، فيبطل الاعتراف ، فلا قيمة له اذا رجع المتهم عنه ، سواء اكان الرجوع صراحة او ضمنا .
الحالة الثالثة :- اذا تعلق الاعتراف بحق لله وللعبد ، فأن حق الله يسقط ، مثل ان يعترف المتهم بسرقة مال شخص ما ، ثم يرجع في اعترافه ، فلا يقام عليه حد السرقة ، ما لم تثبت عليه الجريمة بطريق اخر غير الاعتراف ، الا ان حق العبد في استعادة ماله او التعويض عنه يثبت ضد المعترف ولا يسقطه رجوعه في الاعتراف ([8]).
فندعو الى الاخذ بهذه المبادئ في رجوع المتهم عن الاعتراف لانها عادلة ومنصفة ولا يمكن ان يذهب نتيجة تطبيقها ابرياء الى السجون او يحكم عليهم بالاعدام ، كما ندعو الى الزام المحاكم في حالة اخذها بالاعتراف ان تتحرى عن الدافع الحقيقي للمتهم في اعترافه ، ثم تبن عليه صدق او كذب اعترافه قبل الحكم عليه ، اذ ان الدافع على الاعتراف ركن من اركان كشف حقيقته .
لعل الاخذ بهذا الموقف سيكون حافزا قويا لانظمتنا التحقيقية الى تطوير ادواتها وكوادرها لكشف الجريمة ومرتكبيها بطرق علمية متطورة ، ويجنبها ارتكاب الانتهاكات على السجناء والموقوفين طلبا للاعتراف .
المصادر
القاضي علي عباس اليوسف – الاعتراف المعيب – دراسة مقارنة – رسالة قدمت الى المعهد القضائي العراقي عام 1990 كجزء من متطلبات الدرسات القانونية المتخصصة العليا – القسم الجزائي .
[1] - اظهر المحقق للمتهم بانه يعتقد بان المجنى عليه ( خال المتهم ) يستحق القتل لانه ترك زوجته الجميلة الصغيرة في العمر ليمارس اللواط مع الاطفال ، فاجاب المتهم بانه قتله لهذا السبب .
[2] - حدثني احد قضاة التحقيق بانه بعد ان دون اقوال المتهم بالانكار ، ولان الجريمة غامضة ومعقدة ، فأنه اخبره ( اي اخبر المتهم ) بانه سيحيل القضية الى مكتب مكافحة الاجرام في المحافظة ، فأجابه المتهم بانه مستعد للاعتراف بالجريمة على ان لايحيله الى ذلك المكتب .
[3] - يعد الاقرار او الاعتراف - عند الفقهاء المسلمين - تحت تأثير الاكراه باطلا ولو قامت الدلائل على صحته كأن يرشد السارق عن المسروقات او القاتل على الجثة ، ولم يخالف بذلك الا بعض المالكية ممن ذهبوا الى االقول بصحة اقرار المكره .انظر في تفصيل ذلك :- القاضي علي عباس اليوسف – الاعتراف المعيب – ص13 .
[4] - ان من اصعب الفروض التطبيقية هوالاخذ بقاعدة عدم الاعتداد بالاعتراف واطراحه بالكامل ولو جاء بوقائع صحيحة ، اذ يصعب العمل بها وتطبيقها على ارض الواقع ، فلو اعترف المتهم بالاكراه والتعذيب بانه قتل المجنى عليه ببندقية دفنها في ارض زراعية ، وقام بالدلالة على مكان دفن البدقية التي اظهر التقرير الفني بانه هي البندقية التي اطلقت منها الاطلاقات التي وجدت بجانب جثة المجنى عليه ، فهل يسهل اطراح مثل هذا الاعتراف الذي تقطع بصحته الادلة المادية التي اخرجها المتهم المعترف بالاكراه؟ ان التطبيق السليم لحكم القانون والقواعد القانونية الصحيحة التي تراعي حقوق الانسان تتطلب ذلك فعلا ولابد من اهمال ذلك الاعتراف بالكامل ، فلا مناص من ترك الاخذ بالاعتراف المأخوذ بالاكراه وعدم الاعتداد به بشكل مطلق ولو كان صادقا ومطابق للحقيقية ، واالا فأن ذلك انتهاك خطير لحقوق المتهم وخرق كبير في العدالة .
[5] - قضت محكمة النقض المصرية بالعدد 5925 في 2 / 5 / 1985 :- ( الاصل في الاعتراف الذي يعول عليه ان يكون اختياريا وهو لا يعتبر كذلك – ولو كان صادقا – اذا صدر اثر ضغط او اكراه كائنا ما كان قدره ، وكان من المقرر ان الدفع ببطلان الاعتراف لصدوره تحت تأثير الاكراه دفع جوهري يجب على محكمة الموضوع مناقشته والرد عليه ما دام الحكم قد عول في قضائه بالادانة على هذا الاعتراف ) ، وقضت بالعدد 3725 في 4 / 10 / 1988 :- ( من المقرر ان الاعتراف الذي يعول عليه يجب ان يكون اختياريا وهو لا يعتبر كذلك – ولو كان صادقا – اذا صدر اثر اكراه او تهديد كائنا ما كان قدر هذا التهديد او ذلك الاكراه ) . نقلا عن الموقع الرسمي للجنة الشريعة الاسلامية بدمياط – قانوني دوت كوم _ www.qanony.com .
[6] - احضر الضابط متهما - معترفا بمحاولة خطف ابن خاله - الى القاضي الخفر ليلا لتدوين اقواله بالاعتراف ، فلاحظ القاضي الخفر بأن المتهم لا يقوى على الوقوف على رجليه ، فاصر عليه لقول الحقيقية ، فافحص المتهم بان اعترافه انتزعه منه الضابط بالاكراه لانه متواطئ مع خاله لتوقيفه بحجة شروعه بخطف ابنه للضغط على والدته للتنازل عن حصتها من الارث .
[7] - اشار القرآن الكريم الى الاعتراف في عدة مواضع منها قوله تعالى في سورة التوبة الاية ( 102 ) :- ( واخرون اعترفوا بذنوبهم ) وقوله في سورة المالك الاية ( 11 ) :- ( فاعترفوا بذبهم فسحقا لاصحاب السعير ) وقوله تعالى في سورة البقرة الاية ( 84 ) :- ( ثم اقررتم وانتم تشهدون . ) وقوله في صورة النساء الاية ( 134 ) :- ( يايها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم ) . الا ان تلك الاعترفات كلها بارادة حرة واعية فلا اكراه ولا اجبار .
[8] - القاضي علي عباس طاهر اليوسف – الاعتراف المعيب – دراسة مقارنة – رسالة تقدم بها الى المعهد القضائي العراقي عام 1990 كجزء من متطلبات الدراسات القانونية المتخصصة – القسم الجزائي – ص 40 .